في سيرة حياة السياسي والأديب فخري البارودي المتخمة بالأحداث والمنعطفات والمفاصل أنتبه إلى تفاصيل كثيرة تحمل في داخلها قراءات مهمة لا يمكن العبور عنها من دون توقف. لكن سأتوقف عند مفصلين مهمين في سيرة حياة الرجل بكل تفاصيلها:

- الموقف الحازم والتقدمي بتحرير المرأة، وقد ألف زعيم دمشق في ذلك كتاباً عام 1934 (تخيلوا معي كم هو مبكر هذا الزمن) وعنونه بفصل الخطاب بين السفور والحجاب، ودعا فيه علانية المرأة السورية المشرقية إلى التحرر من سلطة العادات والتقاليد، وحثها على التعليم منوها أن المرأة حين تتعلم تنهض بالمجتمع.

نحن هنا أمام رجل سياسة وثقافة ووجه من وجوه سوريا المعروفين يتحدث في ثلاثينيات القرن العشرين بصراحة عن سفور المرأة كخطوة إيجابية في مواجهة التغييب والتعمية والجهل. وتلك كانت إحدى معاركه الشرسة مع التيارات الدينية والمحافظة التي واجهها فخري البارودي بالجدل والطرافة والمحاججة.

أقارن معركة الرجل (ومعاصريه) في تلك القضية، التي يتم عمداً إخفاء حقائقها التاريخية عبر إنتاج بصري مكلف وباهظ للدراما التي تصور المرأة في البيئة الشامية في ذلك الزمن أنموذجاً عن شخصية «أم عصام» في المسلسل البائس والشهير للأسف. ثم أقارنه، بمن يطرحون أنفسهم بالشخصيات التنويرية في زماننا المعاصر، وقد أحبوا لقب «نسويين ونسويات»، فأتأسف على تلك الشجاعة في الطرح التي حملها البارودي لا بقصد خوض معارك وحسب لغايات الظهور، بل لخوضه معركته الفكرية، التي آمن بها لصالح مجتمعه، من دون أي شبهة تمويل تكسر صفاء الفكرة. 

   التوقف الثاني والأكثر لفتاً في تفاصيله كان في عام 1949، حيث توجه فخري البارودي العاشق للموسيقى والطرب إلى أصدقائه من أثرياء دمشق، لينفقوا على تأسيس «النادي الموسيقي الشرقي» والذي اتخذوا له مقراً في حي ساروجة العريق في دمشق، وبالتعاون مع من يعرفهم من موسيقيين تعاقد البارودي بعقود احترافية مع أساتذة موسيقى (منهم من جلبه من النمسا)، ثم وظف نفوذه الاجتماعي والسياسي في حكومة الرئيس شكري القوتلي ليحصل على بند نفقات في موازنة وزارة المعارف، فكان ذلك أساس ونواة «المعهد الموسيقي» في سوريا.

اللافت جداً أن المشروع التقدمي المذهل تعرض للإجهاض الممنهج، لا على يد رؤية متطرفة (وكان وجود هؤلاء لا يذكر في حياة السوريين وقتها)، بل على يد مؤسس حزب «البعث» ما غيره: ميشيل عفلق والذي كان أيامها قد تولى منصب وزير المعارف في الحكومة السورية، فقام في نهاية عام 1949 بشطب بند الإنفاق على النادي الموسيقي من الموازنة لأنه رأى فيه إسرافاً ونفقات غير مجدية!

لقد كانت بداية تراجع المشرق العربي الحقيقية تكمن بين فكي كماشة، الأولى هي تمدد التطرف والجهل، والثانية كانت في العسكرتاريا التي لبست ثوب «التقدمية» والتي اتخذت من الشعارات الرنانة والجوفاء منهجية لا تقل تطرفاً ولا جهلاً ولا إقصاء في سبيل بسط سلطتها بأي ثمن. لقد قتلنا نخب التنوير المحلية الخاصة بمجتمعاتنا و«هوياتها» المحلية..فقتلتنا الردة، وصار الواحد فينا - فعلياً- يحمل في الداخل ضده.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا