ليس هناك ذكريات أكثر التصاقاً بالإنسان من تلك المرتبطة بذاكرة الوطن، والتي شكلت لحظة فارقة كان لها ما بعدها، أن تعايش الحلم منذ أن كان فكراً طموحاً في عقول وقلوب رجال عظام إلى أن يتحقق ويفوق كل التوقعات والآمال، فتلك لحظات تُحفر في الوجدان، تبقى حاضرة مع كل إنجاز ومرحلة تنتهي وأخرى تبدأ، لتعود الذكريات بكل ألقها ووضوحها وكأنها اليوم، لحظات لا تُنسى، وكيف لها ذلك؟!، وقد غيرت مجرى تاريخ وطن، وبدلت حاضر مجتمع ومستقبله في مدة زمنية لا يتوقعها أكثر الناس تفاؤلاً.
ونحن نحتفي بالذكرى الخمسين لاتحاد دولتنا تعود بي الذاكرة إلى ذلك اليوم الأكثر أهمية في حياتي، حيث كنت في الثانية عشرة من عمري، ورغم هذه السن الصغيرة إلا أنني الآن وحين أمر بشريط الذكريات أدرك أن وعيي، كما أقراني في ذلك الوقت، كان أكبر من سني بكثير، فقد عشنا بدايات حُلم تأسيس الاتحاد الذي مر بمخاض صعب من نهاية الستينيات بعد قرار حكومة العمال البريطانية بالانسحاب من ما يعرف شرق السويس، إلى أن تم إعلان الاتحاد يوم الخميس الثاني من ديسمبر 1971.


أجواء الفرحة

في ذلك الصيف البريطاني حيث أرسلني والدي للإقامة مع أسرة إنجليزية في الساحل الجنوبي، أتذكر اتصالات والديّ المتقطعة لمتابعة أحوالي والاطمئنان عليّ، إلا أن الاتصال الذي ما زال حاضراً في الوجدان بكل تفاصيله ذلك الذي جاء في نهاية فصل الصيف وحمل معه بشرى اتفاق إقامة دولة الاتحاد، ومع أن التصور لم يكن واضحاً تماماً حول الدولة الجديدة ولا الاسم الذي ستحمله إلا أن الفرحة كانت غامرة، فرغم حداثة سني كنت مدركاً بكل وضوح أننا أمام تاريخ مفصلي سيكون له ما بعده، وحدث سيغير وجه هذه المنطقة الجغرافية الغالية علينا من العالم.
لم يفارق ذاكرتي ذلك الاتصال بل بقي محفزاً للتفكير حول مستقبلنا ومستقبل بلادنا وكيف ستكون، ومع اقتراب موعد الاستقلال والاتحاد وأجواء الفرحة تعُم الجميع أستذكر ذلك الخميس، حينما كنت وإخواني في منزلنا القديم في منطقة ميدان عبدالناصر بديرة، وكنا نستعد للانتقال إلى منزل جديد، ننتظر بفارغ الصبر عودة جدي المرحوم علي بن عبدالله قرقاش من مراسم رفع العلم وإعلان الدولة في المضيف بمنطقة جميرة، وحتى مع صغر السن كان الشغف كبيراً لمعرفة التفاصيل، حيث كنا نحاول تصور شكل العلم الذي سيستبدل الأعلام المحلية بألوانها البيضاء والحمراء إلى علم واحد، فقد أدركنا قيمة العلم وأهميته ورمزيته، ليأخذنا التفكير إلى رسم نماذج عدة مرة بنخلات وأخرى بنجوم، حتى دخل جدي حاملاً معه البيان الذي تم توزيعه بهذه المناسبة التاريخية، وكان السؤال الأكثر إلحاحاً بالنسبة لنا هو شكل العلم، فتناول جدي أقلاماً رصاصية ملونة موضوعة على الطاولة، وبدأ برسم العلم على ظهر ورقة البيان ليوضح لنا رمز الدولة الذي سيعبر عنها في كافة المحافل الدولية والوزارات والمؤسسات والبيوت وقلوب الإماراتيين.


عزيمة القيادة 

لم تكُن الظروف بتلك السهولة التي يتصورها البعض، ولم يكُن الطريق معبداً، بل مر الاتحاد بلحظات قاسية أظهرت صلابة وقوة عزيمة قيادته، وأثبتت أن الاتحاد قام على أكتاف رجال آمنوا به، وأخلصوا له وبذلوا الكثير في سبيل منعته واستمراره ووصوله إلى ما وصل إليه اليوم من ازدهار وتطور. ففي أول يوم عيد وبعد أسابيع من إعلان الدولة وفي بداية عام 1972 وبينما كُنا في منزلنا الجديد في أبوهيل نحتفل بهذه المناسبة وسط أجواء عائلية يملؤها الفرح، بدأت الأخبار تتوالى عن أول تحدٍ يواجه الاتحاد في الأسابيع الأولى لقيامه، تحد وجودي يرتبط ذهنياً بما كان يحدث في وقت سابق، فقد كانت المعلومات الشحيحة ترد عن انقلاب يهدد كيان الدولة الوليدة، ورغم حَدَاثَةُ السِّن وغياب التجارب الحياتية إلا أننا أدركنا تماماً جسامة الموقف ودقة اللحظة، وهنا برزت زعامة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه بكل تجلياتها وإيمانه العميق وحنكته ورباطة جأشه، حيث قام بدور الزعيم التاريخي ليحافظ على وحدة الإمارات، مؤكداً أن القواعد التي تؤسس للاستقرار والاستمرار صلبة ومتينة، وأن السائد قد تخطاه الزمان ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، فكانت توجيهاته رحمه الله بصفته رئيساً للدولة واضحة لوزير الدفاع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي لعب دوراً حاسماً في حفظ هذا الكيان وهو في ريعان شبابه.
لقد بدأت رحلة الإمارات نحو النجاح منذ ذلك الوقت يوم أُعلن الاتحاد، فلم تكُن الرؤية التي آمن بها المغفور له الشيخ زايد وإخوانه الآباء المؤسسون رؤية مقتصرة على الاتحاد فقط، بل على تأسيس دولة يكون لها حضورها ومكانتها بين الدول، يفتخر ويعتز بها كل منتم لها، دولة ترتقي بالإنسان وتوفر له كل السبل الكفيلة بحياة مزدهرة مستقرة.


مسيرة الازدهار


ومنذ إعلان الاتحاد تحركت عجلة النهضة ومسيرة الازدهار بسرعة مذهلة، لنعيش في ورشة عمل تشمل البنية التحتية والتوسع في التعليم والصحة والمساكن الشعبية، إلى جانب الحراك الاجتماعي والوظيفي الذي غير شكل هذه الدولة وطبيعة المجتمع.
لقد كان شعب الإمارات في فترة التأسيس يشعر بحالة مفعمة من التفاؤل والأمل بغد أفضل، رغم صعوبة الظروف وتعقد العديد من المشاكل التي ربما لم ندركها في ذلك العمُر، إلا أننا ندركها اليوم تماماً، فاتساع الحلم والحكمة والسخاء عوَّض سنوات عجاف في ظل الحماية البريطانية للساحل، وهذا التفاؤل لم يكُن لولا التعامل الحكيم للشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه لخلق شعور بالهوية والولاء لدولة واحدة، بعد أن كنا شعباً واحداً مبعثراً في كيانات صغيرة فعبر حكمته وصبره هو وإخوانه حكام الإمارات تمت تسوية العديد من المسائل المعقدة وعلى رأسها قضايا الحدود الداخلية وتوحيد الجيش والاعتراف الدولي.
وفي ظلال الخمسين وأنا أقلب شريط الأيام الأولى لقيام الدولة أتذكر زيارات جدي علي بن عبدالله للحكام، وأذكر زيارته للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان في لندن، وقد كانت المرة الأولى التي رأيت فيها هذا القائد الخالد الذي سيبقى مرتبطاً بذاكرتنا وهويتنا، فهو الملهم والرمز والقدوة التي فتحت لنا كل أبواب التقدم والتطور، كما أذكر مرافقتي لجدي في زياراته لمجلس المغفور له الشيخ راشد بن سعيد رحمه الله، حيث أجلس في نهايته مندهشاً من شخصية القائد الأسطورية بكل ما تتميز به من تواضع وعملية، والتي بنت دبي بالإرادة والعزيمة والذكاء، كما أستذكر زيارات جدي لحكام الإمارات والصداقة الشخصية التي جمعته بالمغفور له الشيخ راشد بن حميد حاكم عجمان، والمغفور الشيخ أحمد بن راشد حاكم أم القيوين، وأسمع منهم أحاديثهم عن تفاؤل الفجر الجديد والمستقبل المشرق.


بناء الإنسان


في تلك الفترة من الزمن كان توجه القيادة واضح المعالم، وهو بناء الإنسان، القادر على المضي قدماً بالاتحاد إلى آفاق بعيدة من النهضة والتقدم، فكان التوسع في التعليم عنصراً رئيسياً من عناصر البناء والتحديث، حيث بدأ من هم في الثانوية بالذهاب إلى جامعات العراق ولبنان ومصر، وأما الصف الذي كنتُ فيه فقد كان من أوائل الدفعات التي درست في الولايات المتحدة الأميركية، وأذكر أن صفنا في الثانوية ضم قرابة الثلاثين طالباً انتقل منهم عشرون للدراسة في الجامعات الأميركية، وكانت تلك السنة سنة تأسيس جامعة الإمارات، وهنا أشير إلى أن والدي محمد عبدالخالق قرقاش رحمه الله وبرغم اشتغاله بالتجارة إلا أنه كان مؤمناً بكل عمق بالخدمة العامة، فكان دائم التشجيع لنا على التعليم والعمل العام، ومن هذا المنطلق انضمَّ شقيقي الأكبر إلى جيش الاتحاد وأكمل دراسته ليتخرج ضابطاً من أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في بريطانيا.
الذكريات والأحداث كثيرة ولا يمكن لهذه المساحة أن تستوعبها، فنحن نتحدث عن حدث تاريخي غّير واقع منطقة وشعب، فيه من التفاصيل والمحطات الكثير، إلا أنني أردت من خلال هذا المقال المرور بلمحات بسيطة شخصية من الحدث الأهم في حياتي، حدث كنت محظوظاً أنا وجيلي لأننا كنا من جيل زايد وجيل الاتحاد وجيل الإمارات.


رسالة إلى الأجيال المقبلة

لقد كانت الإمارات شجرة مثمرة نمت وأينعت، لنقطف اليوم ثمار حلم عظيم حمله رجال عظام، دافعوا عنه وحموه بكل قوة، فأصبح حصناً منيعاً، ووطناً نفخر به، وطناً فيه من القيم الكثير ومن الإنجاز ما نعتز به، ومن التفاؤل والأمل ما يحفزنا لنواصل المسيرة، بقيادة فذة حكيمة تضع الإنسان في صدارة أولوياتها، وهنا لا بُد لنا من رسائل نوجهها من جيلنا إلى الأجيال التي ستحمل الشعلة وتكمل المسيرة، فالأوطان تبنى بالقيم والطموح والعلم وبالتكاتف والتآزر، فحافظوا على هذا الإرث الغني وواكبوا المتغيرات الحضارية والعلمية في عالمنا، فقد نجحت الإمارات لأنها حافظت على قيمها وانفتحت على العالم، فليكن نجاحنا في العقود المقبلة مبنياً على هذا الأساس الصلب.
لا شك أن هذه المسيرة المباركة تتطلب أن نوثقها بكافة جوانبها، وأن يشمل ذلك الرواية الشخصية كما التأريخ الموثق، لنخبر قصتنا منذ البدايات المتواضعة وحتى العالمية التي نعيشها بكافة تفاصيلها، فتلك القصة هي قصة التحدي والعزيمة، قصة حلم ملأ الدنيا وسمع به القاصي والداني، حلم بدأ وسيتواصل واقعاً معاشاً وأملاً بمستقبل مشرق، فنحن عندما نحتفي بالخمسين، فإننا نحتفي برحلة متميزة هي منا ونحن منها، وعندما نحتفي بالخمسين نحتفي بقيادة قدمت وتقدم للإمارات وشعبها الكثير، فهنيئاً لنا بالإمارات وقيادتها وشعبها.

بقلم معالي الدكتور/ أنور محمد قرقاش*

*المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة