عندما بدأت دول العالم النامي في نيل استقلالها عن الدول التي كانت تستعمرها في أعقاب الحرب العالمية الثانية كثرت المقولات والأطروحات حول مشاكل التنمية في الدول التي خرجت للتو من السيطرة الاستعمارية وحول رغبة الدول الاستعمارية في مساعدة هذه الدول التي أطلق عليها مجتمعة مسميات عدة كدول العالم النامي أو العالم الثالث أو الدول النامية في إشارات واضحة على أنها دول لا تزال تعاني من التخلف الاقتصادي وعدم القدرة على تسيير أمورها الذاتية بكفاءة على الصعيد الاقتصادي. وخرجت حول ذلك العديد من مقولات التنمية والتحديث والتبعية، سواء على صعيد ما طرحه مفكرون من العالم الرأسمالي أو العالم الاشتراكي قبل زوال الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية برمتها من على الخريطة السياسية العالمية.

لقد تصاعد زخم مقولات التنمية في دول العالم النامي خلال عقود امتدت إلى نهاية ثمانينيات القرن العشرين تقريباً وبدء ظهور المشاكل السياسية الكبرى التي طغت أحداثها على اهتمام العالم الذي صرف النظر عن الاهتمام بالاقتصاد والتنمية الاقتصادية لكي ينشغل بشكل أكبر بأحداث من قبيل سقوط نظام الشاه السابق في إيران والحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت، ثم الغزو الأميركي للعراق.

لكن ما قبل ذلك، فإن الولوج المفاجئ لدول آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والمنطقة العربية وجوارها الجغرافي في المسار الرئيسي للسياسات العالمية كدول - وطنية مستقلة، كان واحداً من أهم نتائج الحرب الكونية الثانية. وهنا، فإن المسألة تبدو وكأن مسار التاريخ قد سبق التراكم المعهود للمعرفة من زاوية حصول العديد من دول العالم النامي بسرعة ودون سابق إنذار واستعداد من قبلها للضلوع في التعامل من ذات نفسها مع معطيات أوضاعها الجديدة كدول وطنية مستقلة.

ما حدث أنه في منتصف القرن العشرين ومع طوفان اجتياح أمواج الاستقلال من الاستعمار لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، فإن كل لحظة من لحظات الاستقلال حولت دولة مستعمرة إلى دولة - وطنية مستقلة في عيون المجتمع الدولي.

وقام السياسيون الوطنيون بالترحيب بالاستقلال على أساس أنه ابتعاد عن الماضي وطلاق كلي منه وبداية لمرحلة تقوم فيها حكومات حرة بالابتعاد عن والتفوق على الاستعماريين الذين سيطروا على أوطانهم في التطلعات والإنجازات والوسائل والأساليب. ومن الناحية التنظيرية الدول الوطنية والدول الخاضعة للاستعمار، هي كيانات منفصلة عن بعضها بعضاً. وكأجزاء من إمبراطوريات ممتدة الدول الخاضعة للاستعمار، كانت خاضعة بقوّة السلاح من قبل مركز مدني بعيد عنها في إحدى العواصم الأوروبية. وعلى العكس من ذلك مسمى الدول الوطنية يعني دولة مستقلة معتمدة على ذاتها ومسؤولة أمام مجموعة من البشر القاطنين فيها عن ما تقوم به من ممارسات، خاصة على صعيد التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

لكن الذي حدث في دول العالم النامي على صعيد الممارسة العملية أن الأقطار التي كانت خاضعة للاستعمار ورّثت العديد من الخصائص القديمة إلى الدول الوطنية التي قامت على أنقاضها كدول مستقلة، وبالنتيجة أصبحت الدول الوطنية الجديدة حاملة لها وتجمع بين نوعين من الخصائص القديمة كمستعمرات والجديدة كدول وطنية.

ومن أهم الصفات الجديدة هي اضطلاعها بمفردها لعملية التنمية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، وهو اضطلاع مهم جداً شابه ولا يزال يشوبه الكثير من القصور الذي تعود أسبابه لعوامل كثيرة أهمها الحكم الأتوقراطي والفساد الإداري والمالي وهدر الإمكانيات والمقدرات الوطنية، سواء كانت مالية أو بشرية أو ما يتعلق بالموارد الطبيعية.

وبالإضافة إلى ذلك وجدت هذه الدول الوطنية نفسها واقعة ضمن حدود جغرافية مرسومة على خرائط وضعها المستعمرون السابقون وفقاً لمصالحهم وتضم قوميات متعددة الأعراق والأديان غالباً ما تكون منفرة أكثر من كونها مجمعة وخالقة للمشاكل الداخلية أكثر من كونها مدعاة للتوافق وللعيش بسلام ضمن الوطن الواحد، وترتب عليها وجود حكومات مركزية لا توجد توافقات شعبية عليها، وهي جميعها أمور أخذت تنهش في أجساد تلك الدول وتعيق عمليات التنمية فيها.

* كاتب إماراتي