نادراً ما استخدمت الولايات المتحدة المعلومات الاستخبارية إعلامياً على غرار ما فعلت وتفعل لإجهاض -والبعض يقول لتأجيج- خطر غزوٍ روسي تعتبره قائماً، فيما تواظب روسيا على نفيه والسخرية مما تسمّيه «هستيريا» غربية.

أرادت واشنطن صنع رأي عام دولي جاهز لاستنكار «الغزو»، وربما تكون نجحت في إرباك الطرف الآخر ودفعه إلى تأخير خططه أو تعديلها، بما في ذلك الإيحاء بأنه يسحب حشوده العسكرية كمساهمة في «خفض التوتّر».

أما موسكو فركّزت على مطالب وضمانات أمنية لا يفهمها سوى الخبراء العسكريون، لكن جرى اختزالها في نقطتين: منعٌ مطلقٌ لانضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي (الناتو) كونها على حدود روسيا، وامتناع هذا الحلف عن نشر صواريخ هجومية في الدول الأخرى المتاخمة للاتحاد الروسي.

لم يسبق لتحالف «الناتو» أن واجه أزمةً بهذه الحدّة قد تضطرّه، وهو الحلف العسكري الغربي، إلى تقديم تنازلات لـ«العدو» أو الخصم حتى من دون مواجهة حربية.

فمن جهة يشي التصعيد بأن الطرف الروسي يستشعر ضعفاً لدى «الناتو» رغم تماسك المواقف السياسية لدوله، وهو ما ظهر عملياً في إبراز بعض المصالح الحيوية كحاجة أوروبا إلى الغاز الروسي.

ومن جهة أخرى لا يمكن أي تنازل أن يكون الأخير خصوصاً أن موسكو ليست مطمئنّة إلى وجود بولندا ورومانيا ودول البلطيق في «الناتو»، لذلك فهي تطالب بترتيبات خاصة بالنسبة لهذه الدول بالتزامن مع صوغ تفاهمات معقّدة بشأن أوكرانيا، ولن تكون مضمونةً على المدى الطويل.

إذ إن الحقيقة الأولى التي فرضت نفسَها في هذه الأزمة هي أن أمن أوروبا، معطوفاً على انكفاء أميركي عام وصعوبات اقتصادية في بلدانها، كشفت نوعاً من الهشاشة الاستراتيجية. آخر أو أسوأ وأخطر ما كانت دول الغرب تتصوّره أن تُستعاد الحرب الباردة، لكن العقود الثلاثة الماضية التي مضت على انهيار الاتحاد السوفييتي لم تنجح في بناء نمط سلمي راسخ في العلاقات بين أقطاب العالم، وكان واضحاً أن اندلاع الأزمة الأوكرانية في 2014 واستمرارها شكّلا مقدمة لنمط آخر من حرب يُخشى ألّا تبقى «باردة»، وألّا تنتهي في فترة زمنية محدودة. فمجرّد وقوع مواجهة عسكرية في أوروبا يعني سقوط النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، واهتزاز قوة «الناتو» وهيبته، واستطراداً نهاية حقبة «الدولة العظمى الوحيدة».

وفي المقابل، لا تخفي روسيا والصين عزمهما على التخلّص من تحكّم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالنظام الدولي. لم يعد السؤال: هل تحصل أو متى تحصل مواجهة، بل: كيف؟

وما التداعيات المتوقّعة؟كل مبادئ «العالم الحرّ» وقيمه، كما روّجت خلال الحرب الباردة، وكل شعارات الـ«باكس أميركانا» والتفوّق الغربي، هي الآن على محكٍّ صعب، لمصلحة القطبَين الصاعدين، روسيا بالقوة العسكرية وأحلام استعادة النفوذ، والصين بالتوسّع التجاري المتعولم وغير المسبوق.

لن تكون أوكرانيا سوى هدف مرحلي، ولا شك في أن موسكو تفكّر في ما هو أبعد منها. وإذ يبدي الغرب رفضاً للأمر الواقع الذي تفرضه عليه الوقائع، فإنه لا يريد القتال، وفي أسوأ الأحوال قد يعتبر معركةَ أوكرانيا حرباً بالوكالة، والحروب بالوكالة ستزداد لاحقاً لكي يتفادى قطبَا العالَم صِداماً مباشراً بأخطر أنواع الأسلحة الفتاكة.

*كاتب ومحلل سياسي- لندن