تترك الحروب آثاراً مدمّرة على مختلف جوانب الحياة الإنسانية، فتكلفتها البشرية تفوق الاقتصادية، وهي الأكبر والأخطر دائماً، وآثارها تتجاوز لحظتها، فبعضها لا تمحوه السنون ولا العقود.

ومما يزيد من شدة أساها أن أكثر ضحاياها ممن تملي القيم الإنسانية حمايتهم والاهتمام الأكثر بهم، من المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال، فهؤلاء إنْ نجوا من القتل، قد ينتظرهم التشرد، وربما التيه في الأرض، ما بين نزوح خارج الديار أو لجوء خارج حدود الأوطان.وما يجري اليوم في أوكرانيا ليس استثناءً، فالتكلفة البشرية للعنف المستمر في البلاد منذ اندلاعها قبل أيام مثيرة للقلق، والضحايا في تنامٍ مع ازدياد القصف واستمرار الهجمات والاشتباكات التي تطال البلدات والمدن المختلفة، إذ يقع الناس في مرمى النيران المتبادلة، فقُتِل آلاف المدنيين، بينهم مئات الأطفال، وشُرّد الملايين من الأشخاص، ورصدت المفوضية العليا للاجئين التابعة الأمم المتحدة لجوء نحو مليون شخص إلى بولندا والمجر ورومانيا ومولدوفا وسلوفاكيا ودول أخرى مجاورة.

ومن صَمَد من المدنيين أو عَجِز عن الهروب خارج المدن وما يطالها من قصف أو يحيق بما ينتظرها من رعب، ليس أوفر حظاً ممن تشرَّد أو لجأ، إذ يعيش هؤلاء في البيوت أو في الأنفاق والملاجئ تحت أزيز الرصاص ودويّ الانفجارات ينتظرون مصيرهم المجهول. ولن يكون الأوكرانيون أو الروس وحدهم من يدفع إنسانياً ثمن هذه الحرب، فثمة دول في آسيا وأفريقيا ومن قارات أخرى طالها الأسى، فقد فرَّ آلاف الطلبة العرب والأفارقة الدارسين في الجامعات الأوكرانية باتجاه الدول المجاورة لينجوا بحياتهم وتتقطع بهم السبل، وليواجهوا مستقبلاً مجهولاً يتقاطع مع ضبابية مستقبل الأوكرانيين أنفسهم، لا بل يزيد ألماً مع بعضهم ممن عقَّدت بعض الدول المجاورة إجراءات عبورهم بسبب هويتهم أو لونهم.

وللعمليات القتالية الدائرة تأثيراتها التي تتجاوز الإضرار بالبنية التحتية المدنية، الأمر الذي يزيد من تفاقم أوضاع الناس الهشة أصلاً. فقد تركت الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية أكثر من نصف مليون شخص من دون كهرباء، وعشرات الآلاف باتوا محرومين من المياه، فضلاً عن تدمير مدارس ومراكز مدنية حيوية، بينما لا يزال الوصول إلى المتاجر والأسواق والرعاية الصحية والمرافق الأساسية في مناطق القتال النشط مقيَّداً بشدة.

و لن تتوقف التكلفة البشرية عند هذا الحد، فهي مستمرة طالما استمرت الحرب، بل حتى بعد انخماد نيرانها، فتترك الحرب آثاراً مدمرة على أجيال بكاملها، لا سيما الأطفال حيث تمتد آثارها معهم أكثر من غيرهم، إذ تبدأ الحرب وتنتهي وكثير منهم لا يدرك ما يجري حوله إلا بعد أن يستفيق ويبدأ رحلة البحث عن ذويه أو أحبائه فلا يجدهم.

فيض التكلفة الإنسانية للحروب كبير، وآثارها عميقة الجرح والأسى. وليس من مُخَفّف لذلك أو من رادٍ له إلا أن يتحمَّل المجتمع الدولي، ولا سيما الدول صاحبة الشأن أو القرار فيه، مسؤولية مضاعفة من أجل إنهاء هذه الحرب، والبحث عن تسوية ترضي الأطراف جميعها، وتوقف نزف الدم والكوارث الإنسانية الأخرى، وإلا فإن دائرة الحرب إن توسَّعت لن يسلم من آثارها مجتمع أو دولة على هذه الأرض.

تريندز للبحوث والاستشارات