ليس هذا المقال تعليقاً على أحداث الحرب الأوكرانية الأخيرة، والتي نعتقد أنها الفصل الظاهر من «حروب خفية» طويلة ومتلاحقة غيرت النظام الدولي عملياً منذ عدة سنوات. عبارة «الحروب الخفية» من صياغة المؤرخ الفرنسي توماس غومارت، وهي عنوان كتاب نشره في السنة المنصرمة، ويعني بها أوجه الصراع الجديدة المتشابكة في العلاقات الدولية الراهنة حيث يمتزج العامل العسكري مع المعطيات التكنولوجية والاقتصادية والإعلامية.

وكان الباحثان الصينيان ليانغ كياو وكنسيانشو وانغ قد أصدرا قبل سنوات كتاباً بعنوان «الحرب خارج النطاق» أماطَا فيه اللثامَ عن 24 نمطاً من الصراعات الجديدة تختلف عن الحرب العسكرية التقليدية.

صحيح أن الحرب الحالية استُخدِمت فيها كل أنواع الأسلحة، واعتبرت أخطر حرب عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها من الزاوية التي تهمنا ليست سوى محطة من الصراع الاستراتيجي الحاد بين القوى الثلاث الكبرى في العالم: الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين. لقد مال الرؤساء الأميركيون الثلاثة الأخيرون إلى احتواء روسيا من أجل التفرغ للصراع مع الصين التي أصبحت بالفعل قوة اقتصادية وتكنولوجية منافسةً للغرب، وكان الخلاف مع روسيا منحصراً في صد طموحها الاستراتيجي الانفرادي لاستعادة مواقع نفوذها التقليدي في شرق أوروبا.

وعلى الرغم من ردود الفعل الغاضبة من مهاجمة جورجيا سنة 2008 وضم إقليم القرم، إلا أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي حافظت على الحد المقبول من العلاقات مع روسيا، وتشبثت العديد من الأطراف الأوروبية بفكرة ضم روسيا للبناء الأوروبي الموسع ولو خارج صيغة الاتحاد الإقليمي القائم. والواقع أن الخلاف الثلاثي بين القوى الدولية الكبرى لم يكن لا مؤشراً على عودة الحرب الباردة، ولا صراعاً أيديولوجياً من نمط جديد، بل هو مظهر تحول كبير في خريطة العلاقات الدولية الراهنة يتعين استكشافه.

وبدون العودة إلى المعطيات التاريخية البعيدة، نكتفي بالتذكير أن صعود أوروبا الغربية الذي حصدت ثمارَه الولاياتُ المتحدةُ الأميركيةُ بعد الحرب العالمية الثانية، تم من خلال التحكم في المجالين الأطلسي والمتوسطي اللذين كانا لمدة ثلاث قرون محور النظام الدولي. وكانت الحرب الباردة في حقيقتها صراعاً على هذين المجالين الحيويين، وكانت هزيمة الاتحاد السوفييتي في الصراع القطبي ناتجةً عن نجاح منظومة التحالفات الغربية في صد النفوذ الشيوعي خارجَ هذا الفضاء الذي يتركز على الشراكة الأوروبية الأميركية وامتداداتها العالمية الواسعة.

ولقد ظل النفوذ السوفييتي في هذا الفضاء محصوراً في مراكز هامشية، في حين سيطر الحلف الأطلسي والقوة العسكرية الأميركية على المنافذ والمضايق البحرية التي يقوم عليها الأمن الاستراتيجي العالمي.

ولقد أدت تحولات ومعطيات كبرى معروفة إلى تغير هذه البيئة الاستراتيجية العالمية، بحيث انتقل محور القوة الاستراتيجية إلى المجال الهندي -الهادئ، والمجال الرابط بين بحر البلطيق والبحر الأسود. أما المجال الأول فهو الرهان الأساسي للصراع الصيني الأميركي، باعتباره يغطي أكثر من نصف المعمورة وثلاثة أرباع سكان العالم، ويربط ما بين شرق أفريقيا وجنوب آسيا ويتداخل بقوة مع الخليج العربي والبحر الأحمر.

ولقد تركز مشروع الصين للهيمنة على هذا المجال الواسع حول مبادرة «طرق الحرير الجديدة» التي بدأت تتحول إلى واقع فعلي مع السعي للتحكم الكلي في «بحر الصين» الذي تعتبره بكين طوق حمايتها الحيوي.

أما الولايات المتحدة فقد بلورت فكرة «الديمقراطيات البحرية» التي تضم أميركا وبريطانيا وأستراليا، وهي مطروحة لكي تشمل الهند واليابان وكوريا الجنوبية. أما المجال الثاني فهو محور الصراع الغربي الروسي، ويتركز حول منافذ الأمن القاري الأوروبي في البحر الأسود وبحر البلطيق التي تتلخص إجمالا في العمق الاستراتيجي التقليدي لروسيا (دول البلطيق وجورجيا وأوكرانيا ومولدافيا).

وما يحدث حالياً هو اكتمال الاستراتيجية الروسية الساعية إلى حماية هذا العمق الاستراتيجي وإبعاد منظومة الحلف الأطلسي عنه، بما بدأ بعملية ضم القرم والتحكم الكلي في بحر أوزوف وحوض دونباس. لقد عارضت روسيا بشدة منذ سنوات تمديد المظلة الأطلسية إلى مجالها الحيوي، خصوصاً بعد ضم بلغاريا ورومانيا إلى الحلف وتوقيع جورجيا وأوكرانيا اتفاقيتي شراكة معه.

ومن هنا نخلص إلى أن المطروح راهناً ليس تسجيل موقف مبدئي من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وإنما النظر إليها في إطار المعادلة الاستراتيجية الدولية الجديدة التي لا بد أن تُبنى على معايير متوازنة وتشاركية.

*أكاديمي موريتاني