عندما طلبوا منا في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أن نرشّح لطلابنا كتباً للقراءة في شهر القراءة، بزغت لديّ عدة خواطر تتعلق كلّها من قريبٍ أو بعيدٍ بدوافع القراءة، وهل هي للمعرفة أم أنها تصير عادة؟ وبالطبع مع كل خاطرة عن هذا الدافع أو ذاك، ترتبط أو يرتبط بكتابٍ أو أكثر. والواقع بالنسبة لي -وأنا قارئٌ قديم- أنّ الهدف دائماً من الحاجة للاطّلاع هو إشباع الفضول أو المعرفة. والعادة هي التي ترجّح الوسيلة. ففي أمرٍ مثل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قد تندفع لرؤية الفضائيات أو اليوتيوب والفيديوهات ووسائل الاتصال الأحدث.

أما أنا فلأنني كما قلت قارئ قديم وللكتب والمقالات الأكاديمية أو الصحفية القصيرة، فإنّ القنوات التلفزيونية لم تشف غليلي رغم تزامنها وحضورها الناصع بالصورة وبالتقرير الصوتي. فبعد أن قرأت عن أوكرانيا في دائرة معارف وفي كتاب سياحي عن أماكنها، التفتُّ إلى روسيا لكنْ ليس للقراءة عن البلاد والقيادة، بل الطريف إنما ليس الغريب أنني أعدْتُ خلال أيام قراءة «الحرب والسلام» لتولستوي، و«الجريمة والعقاب» و«الإخوة كرامازوف» لديستويفسكي. وبالطبع تذكرت تولستوي لأنّ المسألة مسألة حرب.

أما الجريمة والعقاب فلأنني قرأتُ في إحدى الصحف أنّ مسرحاً أو سينما في إيطاليا أو بريطانيا أجَّل أو ألغى مناسبةً تتعلق بهذا الكتاب جراء الغضب على روسيا، وديستويفسكي روسي! والحق أنني لم أر تعلُّلاً أسخف ولا أقلّ عقلاً. ذلك لأنّ موضوع ديستويفسكي هو قضية الخير والشر كما تجلى أو تجلت في نزاعٍ حادٍ بين الأقارب، وهي مواصفات تتضمن الكثير من ظلال النزاع الحالي بين موسكو وكييف!

    وعلى أي حال، وما دمنا بصدد القراءة، فحتى الآن لستُ على يقين لماذا تأتي كل روايات القرن التاسع عشر الروسية في صورة «ملاحم» تتناول نفسية وتصرفات الأمة الروسية بأكملها، بينما لا يتوافر ذلك إلا فيما ندر في الروايات البريطانية أو الفرنسية أو الأوروبية الأُخرى. ربما يتوافر شيء من ذلك في رواية الإسباني سرفانتس («دون كيشوت») أو الإنجليزي تشارلز ديكنز («قصة مدينتين»). أما في حالة روسيا فإنّ الحالة تكاد تكون عامة!  

  قبل واقعة أوكرانيا، كنتُ مشغولاً (كالعادة!)، وخارج كتب تحضير الدروس للطلاب، في قراءة الكتب الجديدة المتكاثرة عن مسألتين: الدين والعلمانية ومعاني وأشكال عودة الدين، ومصائر الولايات المتحدة الأميركية بعد أن كثر الحديث عن عالم ما بعد أميركا (!). وكلما قرأت أربعة كتبٍ أو خمسة عن الدين والعلمانية والعولمة، عدت لقراءة كتاب تشارلز تايلور «عصر علماني». ففي حوالي ألف صفحة يدرس فيلسوف الدين الكندي، وفي تكرارٍ غير مملّ، قضيةَ التداخل بين الديني والعلماني في عشرات المجالات. وعندما تُرجم الكتاب إلى العربية عام 2020 أقبلتُ على قراءته بالعربية أيضاً وانشغلت بالتدقيق في التعابير والمصطلحات المترجمة، كما يفعل المحررون والمصححون!

    أما في مسألة أميركا، فإنّ الأميركيين بل العالم كله منشغل بمصائر القوة الأميركية أمام الصعود الاقتصادي الصيني، والنشاطات العسكرية الروسية. وقليلاً ما نجد أميركياً متفائلاً بالمصائر وأحياناً دون التمييز بين المحلي والعالمي. لكننا نجد في كل كتابٍ جديدٍ هذا التفصيل أو ذاك عن عظمة أميركا أو عن تراجعها، وهي تبقى كالمتنبي الشاعر عند العرب: مالئة الدنيا وشاغلة الناس!  

  بين المعرفة والعادة: المعرفة سواء أكانت عميقة أم مسطحة فهي الهدف. أما العادة فتنصبُّ على الوسيلة للمعرفة وهل هي الصورة أم الخبر أم القراءة المستقصية.

*أستاذ الدراسات الإسلامية- جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية