كانت لحظة مشحونة بالانفعال الشديد لجميع أجهزة الاستخبارات الغربية ليلة 31 ديسمبر 1999 وتبدلت جميع خططهم العائلية للاحتفال بالعام والألفية الجديدة، وهرعوا إلى مكاتبهم للاتصال بعملائهم النشطين لاستطلاع خبر استقالة الرئيس الروسي بوريس يلتسين المفاجئ وانتقال السلطة والحقيبة النووية إلى رئيس الوزراء حينها فلاديمير بوتين.


كان لدى أجهزة الاستخبارات الغربية معلومات كثيرة حول السيد بوتين، منذ دخوله عالم السياسة عام 1991 ومعلومات أكثر حين أصبح في مايو 1998، نائباً أول لرئيس هيئة الأركان الرئاسية وتقلد منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي في يوليو 1998 ثم رئيساً للوزراء في أغسطس 1999. ولكن ذلك الخبر الصادم بالنسبة لهم جعلهم يعودون للتفتيش في ماضي السيد بوتين منذ ولادته! ويبحثون في أسباب استقالته من المخابرات الروسية إثر محاولة الانقلاب الفاشلة في 19 أغسطس 1991 لإقصاء الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف عن الحكم والتي قام بها أعضاء لجنة الدولة لحالة الطوارئ.

وتبين أن أسباب استقالته من المخابرات برتبة مقدم، في اليوم التالي لمحاولة الانقلاب، لأنه لم يوافق على ما حدث، بل لم يكن يريد أن يكون جزءاً من المخابرات في الإدارة الجديدة، ما جعل تلك المعلومات الضئيلة حوله، تقلق ليلتهم الطويلة، حيث طلبت معظم الدول تقارير مفصلة من الاستخبارات حول الرؤية المتوقعة للرئيس الروسي الجديد، في بداية الألفية.
لم تكن قراءة تاريخ السيد بوتين سهلة، فقبيل استقالة الرئيس يلتسين، وتحديداً في أغسطس 1999، أي عند تولي السيد بوتين منصب رئيس الوزراء، ظهرت تقارير استخبارية متضاربة حول شخصيته خلال الحرب الشيشانية الثانية، بين روسيا الاتحادية وجمهورية أشكيريا، حيث اندلع نزاع مسلح على الأرض الشيشانية والمناطق الحدودية في شمال القوقاز، فشنت روسيا بقيادة بوتين، حرباً على جمهورية الشيشان رداً على غزو داغسان وإعلانها دولة مستقلة، ودخلت القوات الروسية الشيشان عنوة في أكتوبر 1999 وأنهت استقلال «جمهورية أشكيريا» واستعاد بوتين الإقليم دون أن يرتد له جفن.
معظم التقارير الاستخبارية التي تم رفعها لقيادات الدول الغربية، صبيحة الألفية الجديدة كانت تشير إلى أن السيد بوتين هو رجل استخباري وعسكري كتوم، يتمتع بالحنكة والذكاء، وأنه سيتولى رئاسة روسيا رسمياً، ومن المرجح أن يتم انتخابه، وأن على القيادات أن تبارك تعيينه رئيساً بالإنابة حالياً، فصرح البيت الأبيض فوراً «إن الإدارة الأميركية لم تفاجأ بالخطوة التي اعتبرتها تغييراً كبيراً»، لكن الرئيس الأميركي «بيل كلنتون»، الذي تلقى تقرير مستشاره لشؤون الأمن «ساندي بيرجر» حول استقالة الرئيس يلتسين وتعيين السيد بوتين، بدا متردداً، وهو يقدم تهنئته للرئيس يلتسين على رئاسته التاريخية لروسيا، وأكد على أن أهم المكتسبات لولاية يلتسين هي «تفكيك النظام الشيوعي وقيام مؤسسات جديدة منبثقة عن انتخابات ديمقراطية دستورية»، لكنه لمح وبدل تهنئته للسيد بوتين إلى أن «تسلم رئيس الوزراء بوتين المسؤولية كرئيس بالوكالة، طبقاً للدستور، هو المثال الأخير على المكتسبات التي حققها يلتسين» ! 
التصريحات الحذرة الغربية، صبيحة العام الجديد 2000، كانت كلها تشي أن التقارير الاستخبارية المقدمة حول استقالة السيد يلتسين المباغتة وتعيين السيد بوتين، تؤكد معظمها أن المرحلة القادمة في عهد بوتين لن تكون كما يحب الغرب وأميركا، وأن طباعه وصفاته وأفكاره السياسية والعسكرية والثقافية أيضاً، كلها تصب في عودة روسيا إلى زمن ما قبل التفكيك، أو إلى زمن القيصرية الروسية أيضاً، وأن روسيا ستعمل على تقوية حلفاء في الشرق لا يمكن هزيمتهم، وقد تأتي لحظة، يخشى العالم كله فيها أن الحقيبة النووية في يد رجل يعشق روسيا الأم بلا حدود.
في لندن مثلاً، وبناء على تقرير جهاز الاستخبارات البريطانية الذي وضع على طاولة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، فجر الأول من يناير 2000، أكد عدم وضوح الرؤية للمرحلة القادمة، لكن بيان رئيس الوزراء تمت صياغته بطريقة أكثر دبلوماسية فقال «إن بوريس يلتسين قاد بلاده خلال انتقالها من الشيوعية إلى الديمقراطية في إحدى أكثر العمليات صعوبةً وإيلاماً، وبفضله أصبح العالم أكثر استقراراً وأمناً»، وأضاف على عجالة: «أنه يرغب في مواصلة التعاون الوثيق مع رئيس الوزراء فلاديمير بوتين»، وتكرر الأمر، نسخة طبق الأصل، في معظم الدول الأوروبية، في فرنسا وألمانيا وبولندا والتشيك وبلغاريا التي صرحت برغبتها في ألا يكون لاستقالة السيد يلتسين أي تأثير على العملية الديمقراطية في روسيا، ويأملون في ألا تتأثر علاقات الثقة والتعاون الحالية مع بلغاريا باستقالة السيد يلتسين.
يتبع..
* لواء ركن طيار متقاعد