حين قال السيد بوتين لمجموعة من الصحفيين الأميركيين: «جذوري العائلية تعود إلى القرن السابع عشر، حينها لم تكن الولايات المتحدة الأميركية قد وجدت بعد، وربما في هذا يكمن الفارق بيننا وبينكم»، كان يوجه عدة رسائل لم يتمكن المحللون والصحفيون الأميركيون من التقاطها، وقد ذهب البعض منهم للسخرية منها، بناء على تقارير كثيرة راحت تفبرك تاريخ عائلة بوتين، وتعبث به، لكن رسالته كانت تقول بوضوح: الثقافة الأميركية لن تهزم الثقافة الروسية الممتدة جذورها عبر التاريخ، وستكون نتيجة أي صراع ثقافي وحضاري بين روسيا وأميركا لصالح روسيا، ومع أنكم نجحتم في تفكيك الاتحاد السوفييتي، الذي سيبقى متحداً بثقافته وحضارته، وسيعود حتماً يوماً ما أكبر وأعظم، فلن تنجحوا بتفكيك تاريخنا والقضاء على قيمنا ومبادئنا.
السيد بوتين، وخلال عشرين عاماً، منذ تعيينه خلفاً للرئيس يلتسين، في آخر يوم من ديسمبر 1999، لم يتوقف لحظة واحدة عن التفكير في إعادة لحمة الاتحاد السوفييتي، ليس خوفاً من «الناتو» وتمدده وزحفه المستمر نحو روسيا، إنما حرصه الشديد، الذي ظهر في معظم لقاءاته الصحفية والتلفزيونية، وفي مذكرات السياسيين الذين كتبوا عنه، مثل مذكرات «الماراثون الرئاسي» ليلتسين، على أن الهوية الروسية من أقصاها إلى أقصاها، هي هوية مقدسة بالنسبة له، يمنع المساس بها، وأنه ومنذ كان طفلاً صغيراً في سانت بطرسبرج (لينينغراد)، وكان والده مجنداً في البحرية السوفييتية ووالدته عاملة مصنع، وكان يقرأ كتب ومقالات ماركس ولينين وغيرهم، كانت أحلامه، تتكرر باستمرار، طيلة حياته بعد ذلك، في توحيد الأمة الروسية، وحمايتها من الأخطار المحدقة بها، ولتصبح القوة الأعظم في العالم.
السيد بوتين، لا يرى أنه يمكن تحقيق الأحلام عن طريق القوة العسكرية، بل يمكن أيضاً عن طريق التسوية السياسية، فحين سأل الصحفي «بافل زاروبين» السيد بوتين، في برنامج «مباشر مع بوتين عام» 2019، عن وجود صفقة كبيرة مع أميركا تؤدي إلى الهدوء في سوريا، قال: «ماذا تعني صفقة؟ سوريا ليست مشروعاً تجارياً، نحن لا نتاجر مع حلفائنا أو مع مصالحنا أو مع مبادئنا، لكن من الممكن التفاوض مع شركائنا على حل بعض المشاكل الملحة، ففي سوريا هناك تركيا وإيران والولايات المتحدة ودول أخرى متورطة في هذا الصراع، لذلك يجب حل القضايا المتعلقة بالتسوية السياسية في سوريا بالتفاوض وليس بالصفقات»، وهذا يتعاكس مع ما نسمعه اليوم، في تصريحات وبيانات غربية وأميركية بأن روسيا لا تريد السلام في أوكرانيا، بل تريد احتلالها فقط، مع أن الواقع، حسب وجهة نظري، أن روسيا تواقة للسلام في أوكرانيا، وأن هذه الحرب ستنتهي قريباً باتفاقية تاريخية تصب في مصلحة الروس والأوكرانيين في آن معاً.
يسأل كثيرون عن العقوبات الغربية على روسيا، ولكي نفهم طريقة تفكير السيد بوتين، نعود إلى لقائه مع الصحفي «زاروبين» عام 2019، حين سأل السيد بوتين: في موضوعات مشاكلنا الاقتصادية، يعزو الكثيرون هذه الصعوبات إلى العقوبات الغربية، وبالمناسبة، يقوم الاتحاد الأوروبي اليوم بتمديدها مرة أخرى، وأحياناً تكون هناك دعوات لتحقيق السلام مع الجميع، الآن، إذا تخيلنا أن روسيا قد أوفت بكل متطلبات الغرب بشكل عام، متفقة مع كل شيء، هل ستعطي شيئاً لاقتصادنا؟ فيجيب السيد بوتين: أولاً، ماذا تعني كلمة «مصالحة»؟ لم نتشاجر مع أي شخص، وليس لدينا مثل هذه الرغبة - للتشاجر مع شخص ما، ثانياً، ماذا ستعطي وما الذي لا يمكنك أن تقدمه، وماذا نخسر في النهاية؟ انظر، وفقاً لبيانات الخبراء، نتيجة لكل هذه القيود المفروضة علينا، منذ عام 2014، خسرت روسيا بطريقة ما حوالي 50 مليار دولار، وخسر الاتحاد الأوروبي 240 مليار دولار، والولايات المتحدة 17 مليار دولار، لأن لدينا حجم تجارة صغيراً، وكذلك اليابان حوالي 27 مليار دولار، كل هذا ينعكس في الوظائف في هذه البلدان، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي: إنهم يخسرون سوقنا، وإذا احتسبنا خسائرنا التقريبية، كان علينا (وقد فعلنا) تشغيل أدمغتنا حول ما وكيف يتعين علينا القيام به في قطاعات التكنولوجيا الفائقة في الاقتصاد، فمثلاً لدينا برنامج ما يسمى بإحلال الواردات بقيمة 667 مليار روبل، حيث أجبرنا هذا على تطوير حتى تلك المجالات التي لم تكن لدينا فيها كفاءات من قبل، مثل المحركات البحرية، فوصلنا إلى مرحلة تصنيع تتفوق على نظيراتها الغربية، وكذلك في العديد من المجالات الأخرى: على سبيل المثال: هندسة النقل، وهندسة الطاقة، ناهيك عن الزراعة، وغيرها.
الآن تضاعفت العقوبات، ولا شك أن روسيا قد قامت بحساباتها مسبقاً، قد تكون تلك أيضا جزءاً من خطة موازية، للاعتماد الكلي الذاتي، ولتحفيز الصناعة والزراعة والتطور التكنولوجي الروسي، والتي تصبّ جميعاً، في تحقيق أحلام السيد بوتين!


لواء ركن طيار متقاعد