في خطاب أمام عدد من رجال الأعمال الأميركان يوم 21 مارس الجاري، تحدَّث الرئيس جو بايدن عن بروز «نظام دولي جديد» ستتحكم من خلاله الولاياتُ المتحدة في الواقع الاستراتيجي العالمي. ومن الواضح أن بايدن يتحدث هنا في سياق الحرب الأوكرانية الراهنة وما قادت إليه من إعادة توطيد الحلف الأوروبي الأميركي، في مواجهة أخطر التحديات التي واجهت الغرب منذ نهاية الحرب الباردة. إن عبارة «النظام الدولي الجديد» استُخدمت أولَ مرة من طرف الرئيس جورج بوش الأب خلال حرب تحرير الكويت، وقد عنَت بالنسبة له ثلاثةَ أمور أساسية هي: بروز أطر جديدة للشراكة الدولية الشاملة دون صراع مصالح أو صدام أيديولوجيات متعارضة، انتصار النظام الليبرالي سياسياً واقتصادياً في معركة الأفكار والنماذج التي قسَّمت العالَمَ إلى كتلتين متناقضتين طيلةَ القرن العشرين، وتصدُّر الولايات المتحدة المنظومةَ الجيوسياسية العالمية وتحكُّمها الكلي في الأجندة الديبلوماسية الدولية.

إلا أن فكرة «النظام الدولي الجديد» عانت منذ بداية طرحها من إشكاليتين محوريتين هما: انبثاق التناقضات والصراعات داخل المنظومة الليبرالية نفسها بنماذجها الاقتصادية والتنموية المتمايزة، فشل ديناميكية توسع وتمدد المسلك الليبرالي (الرأسمالي الديمقراطي) خارج سياقه الغربي الأصلي رغم محاولات الرئيس بوش الابن بإيعاز من «المحافظين الجدد» ومحاولات خلفه الرئيس أوباما في مفهومه للنظام الليبرالي العالمي.

في نهاية شهر أغسطس الماضي ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محاضرةً أمام سفراء بلاده في الخارج، اعتبر فيها أن ما نشهده حالياً هو «نهاية الهيمنة الغربية على العالم»، والتي استمرت ثلاثة قرون، كان أولها قرناً فرنسياً (تمثل في عصر التنوير)، وكان ثانيها إنجليزياً (مع الثورة الصناعية)، أما القرن الأخير فكان أميركياً دون جدل.

وقد خلُص ماكرون إلى ضرورة فهم الغرب لهذا التحول الجوهري الذي من شأنه أن يفرض عليه تقاسم المسؤولية والقرار مع العديد من القوى الصاعدة التي لم تعد ترضى بدور التابع الهامشي.

ومع أن الدول الأوروبية انحازت إجمالاً إلى الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية الأخيرة، وقيل إن النتيجة الأولى للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هي عودة الروح لحلف شمال الأطلسي وللاتحاد الأوروبي، إلا أن جل دول العالم غير الغربي لم تتحمس لقرارات المقاطعة الغربية لروسيا ولم تنسق للمواقف الغربية في هذا الصراع المتفجر. ومن هنا فإن فكرة «النظام الدولي الجديد» التي ابتعثها مجدداً الرئيس بايدن فقدت وهجها الأصلي، وما عاد من المستساغ أو من السهل توظيفها في الحوار الاستراتيجي القائم راهناً.

لقد تغذت سابقاً هذه الفكرة من ثلاثة روافد نظرية هي: التصور التاريخي لحركة الحداثة في بعدها الكوني الذي يتماهى مع سيرورة المجتمعات الغربية، المنظور السائد للعولمة التقنية والاقتصادية بصفتها الأفق الجديد للهيمنة الغربية (الأميركية) على العالم وهي ديناميكية أحادية الاتجاه لا سبيل للخروج عليها، وبروز الليبرالية السياسية (الديمقراطية التعددية) خياراً أوحدَ للتنظيم السياسي ولشرعية أنظمة الحكم.

لكن ما حدث في السنوات الأخيرة هو الانفجار الإشكالي لهذه الفكرة في اتجاهات عديدة من بينها: الانفصام المتزايد بين الديمقراطية الانتخابية ومنظومة القيم الليبرالية مما يَظهر بقوة في انقسام الديمقراطيات الغربية بين ديمقراطيات ليبرالية وأخرى ترفض المرجعية الليبرالية، تحلل السردية الكونية لليبرالية الغربية مما يبرز حالياً في صدام الذاكرة التاريخية في عموم البلدان الغربية وتشكل خطاب تفكيكي نقدي لهذا الكونية في بلدان الجنوب والشرق (النزعة ما بعد الكولونيالية)، وإعادة توزع موارد ورهانات القوة في العالم في ما وراء خط الهيمنة الغربي.

ومن هنا يتبين أيضاً أن شعارَ «النظام العالمي الجديد» الذي يرفعه اليوم الرئيس بايدن مجدداً، إنما هو شعار حرب يندرج في إطار تداعيات العملية الروسية الحالية في أوكرانيا. لا يمكن عملياً الحديث عن نظام دولي مشترك، بل إن الانشقاقات والتصدعات في الخارطة الاستراتيجية العالمية وصلت مدى غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة، إلى حد الحديث المتصاعد عن عودة الجدران العازلة إلى أوروبا بعد ثلاثين سنة من انهيار جدار برلين الشهير. في ما وراء الإجماع الواسع عالمياً حول رفض تهديد سيادة الدول المستقلة أو اجتياحها عسكرياً، لا نلمس حالياً أيَّ إجماع حقيقي حول إدارة النظام العالمي ولا أي إيمان فعلي بشرعية الهيمنة الأميركية على القرار الدولي.

وهكذا نخلص إلى أن مقولة النظام العالمي الجديد التي رمزت في السابق إلى ما سمي بـ«الأمن الأميركي»، وفق مؤشرات انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة الأحادية على العالم، لم تعد تعني اليوم أكثر من محاولة متعثرة لاستعادة دور القيادة والريادة في النظام الليبرالي الدولي المتأزم.

*أكاديمي موريتاني