نحن في بداية عشرينيات القرن الحادي والعشرين، أي مضى أكثر من 13 ألف عام على أقدم حرب غير موثقة في التاريخ، والتي يُقال إنها جرت في منتصف العصر الحجري، حيث اكتشف علماء الآثار وجود 117 مقبرة قرب الحدود المصرية- السودانية، ومجموعة كبيرة من الجثث برؤوس سهام معلقة في عظامها، ما دفع الخبراء للاعتقاد بأنهم كانوا ضحايا معركة كبيرة تعود إلى العصر الميزوليتي، وكذلك مضى ما يقارب 4722 عاماً على أول حروب التاريخ الموثقة، والتي وقعت في سومر العراق وعيلام إيران، والتي انتهت بنصر السومريين على العيلاميين في تلك الحرب. لكن يتوقع خبراء التاريخ أن سببها كان التنافس على الموارد المحدودة، حيث بدأت الزراعة آنذاك تحل محل الصيد، إضافة إلى أنه قد مضى أكثر من 100 عام على نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي نعرف كيف بدأت وكيف انتهت، ولكن تتضارب تحليلات المؤرخين، وفقاً لهوية كل واحد منهم.
العسكريون لا يسألون لماذا تقع الحروب، فهذا ليس نطاق عملهم، وقد يجلس السياسي أمامهم ساعات طويلة يشرح أهداف تلك الحرب، ويكون ذهن العسكري مشغولاً بالتفكير في إدارة الحرب وتحقيق النصر خلال زمن قياسي، وبأقل الخسائر الممكنة، كذلك فإن رجالات السياسة الذين يشرحون أسبابها للحكومات أو البرلمانات، يعلمون أن معظم حججهم، تستند إلى تقارير استخبارية وسياسية واقتصادية أكثر مما تستند إلى بحوث ودراسات اجتماعية وثقافية وإنسانية، مثلاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، سقطت كل النظريات والعلوم الاجتماعية والانسانية الأميركية، وأصبح السياسي والعسكري مشغوليْن بشكل كامل في تحقيق نصر، أي نصر، على الإرهاب و«القاعدة»، لارضاء الشعب الأميركي، ولم يسأل أحد لماذا تم تدمير العراق، إلا بعد سنوات!
يمكننا رصد أو تخيل عشرات الحوارات بين الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن ووزير خارجيته كولن باول ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد إبان وخلال الحرب على العراق 2003، ومن الطبيعي، وحسب كتاب ذكرياته المعروف وغير المعروف أو «المجهول وغير المجهول»، أن ندرك ببساطة رامسفيلد الذي لم يكن يؤمن ببناء الأمة بل في بناء الدولة، كونه من الصقور وليس الحمائم الوطنية الأميركية، بأن كل تلك الأحاديث والتصريحات والبيانات والشروحات، لم تتضمن على الإطلاق مناقشة الأسباب الحقيقية التي دفعت الإدارة الأميركية إلى تلك الحرب، والدليل أنه ثبت لاحقاً سقوط ذرائع وجود أسلحة كيميائية وبيولوجية في العراق، فما كان سبب تلك الحرب فعلاً، خاصة إذا علمنا أنه بعد سنوات منها تقدمت إيران إلى عصب العراق سياسياً واقتصادياً وفكرياً بعد الحرب أكثر مما تقدمت خلال سنوات الحرب العسكرية مع العراق 1980-1988!
هل نحن حقاً في القرن الحادي والعشرين؟ غير معقول، فالذي يشاهد الحرب في أوكرانيا، يظن أننا ما زلنا في العصر الحجري، والحديث المؤكد ليس عن روسيا فحسب، بل عن أميركا والاتحاد الأوروبي، فهما كانتا تسمعان صراخ روسيا طوال سبع سنوات عن ضرورة حياد أوكرانيا وخطورة زحف «الناتو» باتجاه الشرق، وأن ذلك قد يؤدي إلى اشتباك مباشر مؤلم لكافة الأطراف، ومع ذلك، ودون التفكير، قيد أنملة، في تخوفات روسيا الحقيقية، والبحث في أسبابها الاجتماعية والثقافية والفكرية، إضافة إلى السياسية والأمنية، استمر «الناتو» يضع مخالبه في خاصرة روسيا، ويقترب على عجل من جدارها وحصنها، وما زال لغاية هذه اللحظة غير عابئ بايجاد حل توافقي بسيط، يضمن للجميع الأمن والسلام!
هل يعجز الرئيس الأميركي أن يقنع «الناتو» أنه كفا في هذا المسار التصعيدي ووضع العقوبات الهشة، وأنه حان الوقت للقاء فوري وعاجل بين السيد بوتين والسيد بايدن تكون نتيجته المؤكدة وقف الحرب فوراً، وطمأنة روسيا وتحقيق المعقول من مطالبها وعودة اللاجئين الأوكرانيين؟ يمكن أن تتحمل إحدى عواصم الخليح تلك الدعوة للزعيمين، أو إحدى دول منطقة الشرق الأوسط، وأن توضع كل أسباب الحرب على الطاولة، لماذا ننتظر سنوات لتوقيع معاهدة سلام بين روسيا وأميركا، أو بين روسيا و«الناتو»، أو بين الشرق والغرب؟ فكل شخص في العالم اليوم يعلم سقوط ضحايا بالقتل أو الإصابة أو التهجير كل دقيقة، فلماذا المماطلة والتسويف، ونحن جميعاً نعلم أنه حتى لو وقعت حرب عالمية ثالثة، ستنتهي باتفاق سلام، آجلا أم عاجلا؟
لسنا في العصر الميزوليتي! لذلك فإن البحث العلمي في الأسباب الحقيقية للحروب، قد يكون الطريقة المثلى لحلها قبل اندلاعها، أو خلال مراحلها الأولى، بغض النظر عن المنتصر أو المهزوم، فالمنتصر حقاً، هو الذي يمكنه رؤية المستقبل ويبادر بالسلام.

لواء ركن طيار متقاعد