كنتُ قد ألقيتُ محاضرةً بمؤتمر منتدى تعزيز السلم في عام 2017 عنوانها «سلامة الدين وسلام العالم.. نحو سرديةٍ جديدةٍ في الإسلام». وقد ذكرتني بها شآبيب الرحمة في رمضان، وكلام معالي الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس المجلس العلمي الأعلى بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، حول قيم الرحمة في القرآن الكريم.    

قلت إنه كانت هناك محاولات ومشروعات إصلاحية كبرى طوال القرن العشرين. وفي حين حدث تقدم في مناحي فقه الأُسرة والفقه المالي والمواءمة مع الأزمنة الحديثة، فإنه لم يحدث تقدم كبير في الرؤى العقدية والنظرية أو ما صار يُعرف بـ«رؤية العالم». وعندما صعدت أمواج وعواصف التطرف والإرهاب، هبّ العلماء المسلمون لمكافحتها بالكتاب والسنة والعقل والمصلحة. إنما منذ بضع سنواتٍ رأى عددٌ من كبار العلماء ورجالات المؤسسات أنه لا بد من التقدم باتجاه الإصلاح والتجديد فيما وراء الدفاع. وقد كان من سبل ذلك نشر الإعلانات والبيانات والمواثيق والبحث عن الشراكات مع الأديان والثقافات الأُخرى. وهكذا كانت البداية مع رسالة عمان (2004)، ومبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات (2007). وفيما بين العامين 2016 و2020 تكاثف صدور بيانات التجديد والرؤى الأخرى مثل إعلان مراكش (2016)، ومؤتمر الأزهر للمواطنة والعيش المشترك (2016)، ووثيقة الأخوّة الإنسانية بين البابا وشيخ الأزهر (2019)، وإعلان مكة المكرمة (2019)، وميثاق حلف الفضول الجديد (2019).  

  لقد كنت قريباً من هذا التفكير الجديد، سواء بالمحاضرة أم بالمشاركة. ولذلك فقد رأيتُ المساهمةَ بدوري في التجديد في رؤية العالم في المجال الإسلامي. وقد أفدْتُ كثيراً من أعمال المصلحين منذ محمد عبده ومحمد إقبال ومالك بن نبي والطاهر بن عاشور. ولا مجال لعرض الأطروحة برمّتها، وإنما الإدلاء بموجزٍ عنوانه الكبير «الرحمة».     خلاصة الموجز أنّ مناط العلاقة بين الله وعباده هو الرحمة: «ورحمتي وسعت كل شيء»، و«كتب على نفسه الرحمة»، و«إذا سألك عبادي عني فإني قريب».. إلخ. وقد أدليت بتفصيلاتٍ كثيرةٍ عن تطور هذه التأملية بين الرحمة والعدل لدى المتكلمين والصوفية في الزمان القديم.  

  أما مناط العلاقة بين العباد بعضهم ببعض فهو «التعارف»: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا». والتعارف يعني الإقبال على المعرفة المتبادلة التي تزيل حُجب الجهل والخصومة، وتفتح الآفاق لإفادةٍ متبادلة. وإذا كان التسامح هو مقولة الحضارة الغربية أو صار، فإنّ التعارف هو مقولة القرآن وفلسفة الإسلام.     أما القاعدة الثالثة المتعلقة بالتزام المسلمين بحفظ الحقوق الأساسية والتزامهم تجاه العالم، فهي الضروريات أو المقاصد الخمسة للشريعة: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسل، وحق التملك.     فالرحمة الإلهية هي السَنام للأمر كله، والقاعدة الناظمة للضروريات أو المقاصد الخمسة، والتعارف ناظم العقد ومستند الركنين، وموضوعهما.

*أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية