يحتاج اليمن، أكثر من أي وقت مضى، إلى الرؤى الوطنية الشاملة التي يمكنها أن تتصور المستقبل بوضوح شديد، في خطوتين، بدأت بتشكيل المجلس الرئاسي، بمبادرة ورعاية مجلس التعاون الخليجي، في السابع من أبريل 2022، والذي نُقلت بموجبه صلاحيات الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي ونائبه، وفق الدستور والمبادرة الخليجية وآليات تنفيذها واتفاق الرياض، بهدف إدارة الدولة سياسياً وعسكرياً وأمنياً واستكمال تنفيذ المهمات خلال المرحلة الانتقالية، التي يجب أن تتضمن نقل اليمن من حالة الحرب إلى حالة السلام.

ومع أن الخطوة الأولى، وهي التمهيدية، قد لاقت استحسان الكثيرين من مكونات الشعب اليمني، في الجنوب والشمال، مؤسسات وجهات وجماعات وشخصيات، نظراً لأنها برزت كبريق أمل، لاح وسط عتمة سنوات الحرب التي أثارها المتمردون «الحوثيون»، وجرجروا فيها اليمن والشعب اليمني، إلى مستنقعات القتل والمرض والجوع والخراب، بهدف الاستيلاء على السلطة في صنعاء، لتنفيذ مخططات مرسومة في طهران، وتهديد أمن الخليج، وعلى رأسها بلاد الحرمين ودولة الإمارات العربية المتحدة، ومع أن الخطوة الحاسمة قد تلقت دعم وترحيب دول المنطقة، إلا أن المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي كان يبدي اهتمامه السلبي بما يجري في اليمن، لم يبادر إلى تكثيف الزخم، لدعم الخطوة اليمنية الأولى، وتشجيعها وتهميد الطريق لها لتحقيق مهامها.

الكيل بمكيالين، ليست ظاهرة جديدة في السياسة، فالحرب التي أطلقها «الحوثيون» في اليمن، عام 2015، وتسببت في نزوح ما يزيد على 5 ملايين يمني وفي كوارث الأمراض المختلفة والمجاعة التي تفتك بأكثر من 12 مليون شخص وحصدت ما يزيد على 400 ألف قتيل و50 ألف مصاب، لم تلفت انتباه المجتمع الدولي، كما لفت انتباهه الحرب في أوكرانيا التي بدأت بالأمس، على سبيل المثال، وما زالت الأمم المتحدة، ومع تأييدها للخطوة الأولى، بتشكيل مجلس رئاسي في اليمن، إلا أنها تنظر إلى جماعة «الحوثي» الإرهابية، المدعومة من إيران، نظرة طرف رئيس، يحق له التفاوض والمشاركة وتأمل باقتضاب «التوصل إلى تسوية مستدامة وشاملة وتفاوضية للصراع اليمني»، باعتباره صراعاً جانبياً، غير ذات أهمية.

ومع أن الأمم المتحدة قالت إن الهدنة في اليمن «لحظة ثمينة»، إلا إنها ترى هذه الهدنة «عرضة للخطر»، وتؤكد الأمم المتحدة إنها «لا تقوم بالمراقبة، فمسؤولية الالتزام بالهدنة تقع على عاتق الأطراف أنفسها»، وأن أقصى ما لديها هو فقط «الترحيب بالإعلان عن حزمة بقيمة 3 مليارات دولار من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمساعدة اقتصاد اليمن»، أي ما يعني، بكلمات واضحة ومباشرة، ليس من الأمم المتحدة فحسب، بل من المجتمع الدولي كله: «عليكم حل مشاكلكم بأنفسكم، سواء اليمنيين أو دول المنطقة، فنحن للأسف مشغولين بموضوعات أكثر أهمية».

هذا هو الحال، الذي يجب أن يجتمع بشأنه اليمنيون، في الشمال والجنوب، حول المجلس الرئاسي، وتجتمع بشأنه دول الخليج العربي والمنطقة، من دون انتظار رأي المجتمع الدولي الغائب والمتوجس، لإتمام الخطوة الأولى على الوجه الصحيح، ولإخراج الشعب اليمني من دوامة الدم والدمار ومواجهة التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية الشائكة وتلبية طموحات الشعب اليمني بمكوناته المختلفة في التغيير الايجابي المنتظر، سواء بفرض حصار سياسي وديبلوماسي على جماعة «الحوثية» وإجبارها على التقدم نحو مفاوضات سلام شاملة، مع المجلس الرئاسي، الذي يمثل كافة أطياف الشعب اليمني، ويحظى بقبوله، أو تعنت «الحوثي» مرة أخرى، والذي يعني في المقابل، توحيد المؤسسة العسكرية اليمنية في مواجهته، والاصطفاف في معسكر واحد، لإنهاء التمرد «الحوثي» عسكرياً، وبدعم التحالف العربي ودول مجلس التعاون الخليجي.

الخطوة الثانية في اليمن، تعتمد بشكل كامل على نجاح الخطوة الأولى، ولكنها في كل الأحوال، نهاية الحرب الطاحنة المريرة نهائياً، وعودة الأمن والاستقرار والهدوء وبدء عمليات البناء، وهذه ليست معجزة، حيث تحتاج من جميع المكونات والأطياف ترك المصالح والصراعات الشخصية، والالتفات أسوة ببقية شعوب العالم، إلى حاجات الوطن المنكوب، في القطاعات المختلفة، الصحية والتعليمية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية والثقافية، وبناء المؤسسات على أسس صحيحة.

لاشك أن هناك من يرى اليمن، كما هو حال التاريخ، منطقتين جغرافيتين سياسيتين مستقلتين، الشمال والجنوب، ولكن الجغرافيا السياسية، في حالة الحروب الأهلية المعقدة، تستدعي تنفيذ الخطوتين الأولى والثانية على نحو صحيح، أي الأمن والاستقرار أولاً، والذي سيضمن أن أي خطوة ثالثة، في أي اتجاه، ستتم في أجواء ليست انفعالية، بل سيصاحبها الترحيب والإقبال، وعلى الأسس الصحيحة.

* لواء ركن طيار متقاعد