تأخر كثيراً صدور الترجمة العربية لكتاب سوزان مارشاند، «الاستشراق الألماني في زمن الإمبراطورية»، عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة. وكنت قد قمت بترجمة الكتاب الضخم بمعاونة الدكتور محمد أعفيف (المؤرخ المغربي المعروف)، والدكتور أُسامة عرابي (أستاذ الدراسات الإسلامية). والسيدة مارشاند أُستاذة أميركية من أصل ألماني، وهي متخصصة في العلوم الإنسانية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومع أنها تفتتح كتابَها بالإشارة إلى خروجها على أُطروحة إدوارد سعيد في ارتباط الاستشراق الأوروبي بالإمبريالية، فإنها في الواقع تابعت توجُّه إدوارد سعيد فيما يخص الاستشراق الألماني الذي لم يعالجه سعيد في كتاب «الاستشراق» (1977) السالف الذكر.  

  وعندما تضع مارشاند لكتابها عنوان الاستشراق الألماني والإمبراطورية، فإنها تفهم الاستشراق (علوم الشرق وحضاراته في المجال البحثي الألماني) على نحوٍ أوسع مما فهمه وعالجه وأدانه إدوارد سعيد. كان سعيد مهتماً بالبحوث الغربية البريطانية والفرنسية، التي ترتبط من وجهة نظره في الرؤية والاهتمامات بحركة الاستعمار وجوانبها المعرفية والاستراتيجية. أما مارشاند فتتبعت اهتمامات العلماء الألمان بالحضارات الآسيوية منذ القرن الثامن عشر وإلى مطالع القرن العشرين.

وفقط في آخر خمسين عاماً (1870-1920) على وجه التقريب، يظهر نوعٌ من الارتباط بين اهتمامات الدولة القيصرية الألمانية (الإمبراطورية الثانية) بعد قيامها عام 1870 واهتمامات بعض العلماء الألمان. ولذلك نجد أن مارشاند تتابع في هذه الحقبة بالذات أعمال المستشرقين الألمان حول العرب والإسلام. ولنذكر بعد متابعات لأعمال المستشرقين، أنّ الدولة الألمانية ما اهتمت حقاً باصطناع سياسات بعيدة المدى تستخدم العلماء الألمان في ذلك.

وهذا إذا استثنينا منافَسةَ الألمان للبريطانيين والفرنسيين على التحالف مع العثمانيين في مواجهتهم وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى. بيد أن جهود الدولة الألمانية تجاه دعم العثمانيين (زار وليام الثاني أقطار المشرق مرتين في تلك الفترة، ودخل الألمان في حركة استنهاض الجيش العثماني وفي سكة حديد بغداد والحجاز). وكل هذه التحركات إنما قام بها العسكريون الألمان والاستراتيجيون والشركات والقناصل وقلة قليلة فقط ممن يمكن اعتبارهم مستشرقين!  

  ولذا فإنّ الجوانب القوية في كتاب مارشاند الغني تتمثل في استعراض أفكار الفلاسفة والعلماء الألمان حول حضارات الشرق الصينية والهندية واليابانية، وأقلّ من ذلك الإيرانية والإسلامية. وتتجلى تلك الاهتمامات في انطباعات الفلاسفة والمفكرين الألمان حول حضارات آسيا وحول الإنسان الآسيوي. وإقبال العلماء الألمان على ترجمة النصوص الأصلية لتلك الحضارات، كما الإقبال الكثيف على إنشاء المتاحف للذخائر والفنون الشرقية الآسيوية. وكل هذه النشاطات ما تدخلت فيها الدولة الألمانية، إلا على سبيل الغرام لبعض الشخصيات الرسمية وغير الرسمية في دعم هذه البعثة أو تلك، أو اقتناء هذه التحفة أو تلك.  

  وكنتُ في كتابين لي، هما «الاستشراق» (2007، و2012) و«التراث العربي في الحاضر» (2014)، قد استعرضتُ جهودَ المستشرقين الألمان في جمع المخطوطات العربية ونشرها، وفي تكوين انطباعات عن النهوض (الرينسانس) القديم، وإمكانيات حصول انبعاثٍ جديد. ويزدهر اليوم في المجال الألماني الاستشراقي تيار يتزعمه توماس باور، الأستاذ بجامعة مونستر، والذي يريد تغيير الانطباع عن الحضارة الإسلامية، وإخراجَها من مقولة «العصور الوسطى» باعتبارها حقبة جمودٍ وانحطاط.

*أستاذ الدراسات الإسلامية.جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية