ما زالت الأزمة الأوكرانية تلقي بظلالها ليس فقط على روسيا وأوكرانيا، بل على العالم بأسره بشكل عام وعلى قارة أوروبا بشكل خاص. على مستوى روسيا، فالعقوبات الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تصدر تباعاً منذ بدء «العملية العسكرية الروسية الخاصة» في أوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي، وهي تتنوع ما بين اقتصادية وتجارية ودبلوماسية وعلمية وتكنولوجية والهدف الرئيسي منها هو إضعاف الاقتصاد الروسي، بغية إجبار موسكو على إنهاء العملية العسكرية.

أما أوكرانيا، فإن آثار الأزمة عليها أكبر وتشمل لجوء ما يقارب أربعة ملايين أوكراني حتى الآن إلى الدول المجاورة وتدمير البنية التحتية وخاصة العسكرية في العديد من المدن والقواعد العسكرية، والتأثير السلبي الواضح على الاقتصاد الأوكراني وخاصة على صادرات القمح ومنتجات الأسمدة الزراعية، والشلل شبه الكامل في خدمات الحكومة الأوكرانية نتيجة الأعمال العسكرية.

أما على مستوى العالم، فإن التأثير الأبرز لتلك الأزمة يتضح في ارتفاع أسعار النفط والغاز، إضافة إلى النقص في إمدادات القمح الأوكراني. ولكن باعتقادي أن التأثير الأبرز والأخطر على المستوى الاستراتيجي قد حدث على مستوى قارة أوروبا، والتي تشهد أغلب دولها مرحلة من التوتر مع روسيا لم يسبق لها مثيل منذ انتهاء الحرب الباردة بين حلف وارسو السابق وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في بداية تسعينيات القرن الماضي. وبالتالي فإن الأوضاع في أوروبا بعد الأزمة الأوكرانية لن تكون في الغالب كما كانت قبلها، وخاصة على الصعيدين الأمني والعسكري. الأوضاع ستتبدل جذرياً من الناحية الاقتصادية بعد إعلان نية دول الاتحاد الأوروبي تخفيف اعتمادهم على الغاز الروسي بحلول عام 2027 والذي تبلغ وارداتهم السنوية منه ما بين 40 إلى 45% من احتياجات دول الاتحاد، في حين بلغت واردات ألمانيا بمفردها من الغاز الطبيعي الروسي 46% من احتياجاتها في العام 2020.

على الجانبين الأمني والعسكري، أصبحت غالبية الدول الأوروبية تستشعر الخطر الروسي على أمنها القومي بعد الأحداث في أوكرانيا، وذلك بصرف النظر عن التبريرات الروسية بأن التوسع المتصاعد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) على حدود روسيا، هو الذي يُمثل الخطر الأكبر الاستراتيجي على الأمن القومي الروسي، ولذلك وضعت موسكو شرطاً لوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهو نزع سلاح كييف وضمان حيادها بالكامل وعدم انضمامها لحلف «الناتو». ونتيجة للأزمة الأوكرانية، أعلنت فنلندا والسويد عزمهما دراسة الانضمام رسمياً إلى حلف «الناتو»، علما بأنهما شركاء مقربون للحلف، ويشاركان بالفعل في العديد من التدريبات العسكرية مع الدول الأعضاء.

ولكن برأيي، التطور الأمني الأبرز على الساحة الأوروبية هو إعلان ألمانيا، بعد أيام قليلة من الأعمال العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، زيادة ميزانيتها العسكرية إلى 100 مليار يورو للعام 2022 لتصل بذلك إلى الهدف المستقر منذ عقود للدول الأعضاء في حلف «الناتو»، وهو تخصيص 2% من إجمالي الدخل القومي لكل دولة للنفقات العسكرية، وهو الأمر الذي كانت ألمانيا مترددة فيه منذ انضمامها للحلف. وهنا لابد لنا أن نتوقف ملياً لندرس تبعات هذا القرار على الجانب الاستراتيجي في أوروبا تحديداً في حال نهض المارد الألماني عسكرياً، كما نهض اقتصاديا، ليُقارع الدول الكبرى عسكرياً وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وبالتالي كيف ستكون الأوضاع في أوروبا مع بروز ألمانيا عسكرياً وفي ذاكرة التاريخ دورها في الإعلان عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهل ستقبل دول مثل بريطانيا وفرنسا بزعامة ألمانية عسكرياً بجانب زعامتها الاقتصادية في أوروبا؟

* باحث إماراتي