مِن نوادر التراث، ما نَظُنُ في فن التسويق اليوم، أنه من العلوم الحديثة، وهو قديمٌ ذكر الجاحظ طرفاً منه، كما أشار عبدالسلام هارون، في كتابه: (كُنَّاشة النوادر)، عن خدمة العملاء، وعنونه بـ: [تنظيم خدمة العملاء]. فإذا كانت فنون التسويق اليوم، تقول: «العميل دائماً على حق»، فمن باب أولى أن لا يُخدم عميل تأخر في القدوم قبل عميل جاء قبله.

وخدمة العملاء، هي فنٌ يُوَفر للعميل، كل خدمة تُسَهِل علاقته بالمنشأة، وتجعله راضياً عن التعامل معها، مستعداً للعودة للاستفادة من خدمات المنشأة ذاتها ثانية بسعادة وحماسة. ومن ذلك، تنظيم خدمات العملاء، وترتيب تقديم احتياجاتهم بحسب أولوية حضورهم. يقول صاحب الكُنَّاشة: «يزدحم الناس على العامل أو التاجر، فيُحدِثُ ذلك اضطراباً أو تذمراً أو صراعاً، لا يُعالجه إلا تنظيم العملاء، وهو الذي انتهى الأمر فيه في مَدَنِيَّتِنا الحديثة بنظام الصفوف، كما وهو واقعٌ الآن في التموين والمصارف، ودور اللهو ونحوها. فلننظر إلى هذا النص من كتاب (الحيوان) للجاحظ: وكان أهل المِربد يقولون: لا نرى الإنصاف إلّا في حانوت فرج الحجّام، لأنه كان لا يلتفت إلى من أعطاه الكثيرَ دونَ من أعطاه القليل، ويُقَدِّم الأول ثم الثاني ثم الثالث أبداً، حتى يأتي على آخرهم. على ذلك يأتيه من يأتيه. فكان المؤخَّر لا يغضب ولا يشكو».

ويبدو أن السيد فرج الحَجّام، كان خبيراً في خدمة العملاء، ولا ندري هل كان يستخدم أسلوب كثير من الجهات التي تتعامل مع الجمهور اليوم، وهو صرف أرقام متسلسلة، يستلم كل داخل جديد، طالب للخدمة رقماً، وينتظر في صالة انتظار حتى يرى رقمه فيتقدم ليحصل على خدمته؟ أم أن فرج الحجّام، اكتفى بنظام صفوف الانتظار، وهي ما تسمى اليوم (طوابير)، وهي جمع طابور، وذكر رينهارت دوزي، في (تكملة المعاجم العربية)، أن «طابور»، تُركية، أُخذت من البولونية. إنَّ ما تذكره كتب التراث عن رجاحة عقل، فرج الحجام، يؤكد أن مبادرته في خدمة العملاء تأتي امتداداً لحكمته، وسداد رأيه، إذ عدَّهُ الجاحظ، في الرسائل: من نُجَبَاء السودان، ومن المقدمين من السودان على البيضان، وقال عنه: «فرجٌ الحجَّام: كان من أهل العدالة، والمقدَّمين في الشَّهادة.

أعتقه جعفر بن سليمان، وذلك أنه خدمه دهراً يصلح شاربه ولحيته ويهيئه، فلم يره أخطأ في قولٍ ولا عمل (...)، وبلغ من عدالته ونبله في نفسه وتوقِّيه وورعه، أن مواليه من ولد جعفرٍ وكبار أهل المِربد، كانوا لا يطمعون أن يُشْهدوه إلا على أمرٍ صحيح لا اختلاف فيه». وفي كتاب (الورقة) لمحمد بن الجراح (ت 296 هــ): أن المدائني قال عن فرج: «لم يُدرَك حَجَّامٌ أعقل منه».

وذكره الدكتور رشيد الخيون، في كتابه: (أثر السود في الحضارة الإسلامية)، ضمن أعلام العهد العباسي، فقال: «لم يكن فرج الحجَّام، مِن أهل الأدب والكتابة أو السِّياسة، إنما واضح مِن لقبه أنه كان حجَّاماً، وحسب ما يأتي كان حلاقاً أيضاً، ولا نجد في ذلك مانعاً مِن ذِكره مع أعلام، أو طبقات السُّود، فهو قد لعب دوراً في حياة الأمراء والنَّاس. كان مولى للأمير العباسي، جعفر بن سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس (ت نحو 147هـ) والي البصرة، وقد أعتقه بعد أن خدمه دهراً، (يُصلح شاربه ولحيته)». وإن كان الخيون يُشير على أن لا دلالة على أن فرج الحجام كان أسود البشرة، إلا ما ذكره الجاحظ، فهذا لا يعني موضوعنا اليوم، إذ المقصود أن هذه الخدمة لها أصلٌ قديم يتجاوز الألف عام. والله يحفظكم.

* السفير السعودي لدى الإمارات.