كان العبد الفقير إلى ربه، كاتب هذه السطور، عقد في كتابه: (إنما نحن جوقة العميان)، الذي صدرت طبعته الأولى في فبراير 2011، فصلاً بعنوان: تاريخ القراءة باللمس للعميان، مشيراً إلى أن الشائع بين الناس، هو أن مخترع القراءة باللمس للعميان هو العالم الفرنسي (برايل) الذي سميت لغة القراءة باللمس باسمه، ولكن الأديب المحقق الأستاذ، أحمد زكي بك، كاتب مجلس النظار، (مجلس الوزراء) بمصر: (1867-1934م)، وهو من روّاد التحقيق العرب، ومن أوائل من استخدموا علامات الترقيم في اللغة العربية، وبين ما حققه، كتاب الصلاح الصفدي، الشهير: (نكت الهميان في نكت العميان)، أعلن إعلاناً مدوياً عندما صرَّح في مؤتمر دولي عُقد بمصر، لتحسين حالة العميان، بأن علماء العرب، سبقوا علماء أوروبا، في اختراع طريقة القراءة بالأحرف البارزة المختصة بالعميان! وأكد أحمد زكي، أن أول مخترع لذلك، هو علي بن أحمد، المشهور بزين الدين الآمدي، (ت 712ه-1312م). فقد الآمدي بصره في مقتبل حياته، ومع ذلك أقبل على العِلم حتى بلغَ فيه مبلغاً جعله من فطاحل العلماء، في الفقه واللغة العربية، كما أتقن الفارسية والتركية وغيرها من اللغات، وتبحر في المذهب الحنبلي.

قال عنه الصفدي، في (الوافي بالوفيات): «وَكَانَ يتجر فِي الْكتب وَله كتب كثيرة جداً وَإِذا طُلب مِنْهُ كتاب، نَهَضَ إِلَى كتبه، وَأخرجه من بَينهَا، وإن كَانَ الْكتاب عدَّة مجلدات، وَطُلب منه الأول مثلاً أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث أَو غَيره، أخرجه بِعَيْنهِ، وَكَانَ يمس الْكتاب أَولاً، ثمَّ يَقُول: يشْتَمل هَذَا المجلد على كَذَا وَكَذَا أكراس، فَيكون الْأَمر كَمَا قَالَ، وَإِذا مر بِيَدِهِ على الصفحة، قَالَ: عدد أسطرها كَذَا وكَذَا سطرا، فِيهَا بالقلم الغليظ هَذَا، وَهَذَه الْمَوَاضِع كتبت بِهِ فِي الوجهة، وفيهَا بالأحمر هَذَا وَهَذَا لمواضع كتبت بالأحمر. وإن أتفق أَنَّهَا كتبت بخطين أَو ثَلَاثَة، قَالَ: اخْتلف الْخط من هُنَا إِلَى هُنَا...».

واستندتُ في نقلي عن أحمد زكي باشا، إلى مجلة (العلم)، الصادرة في يوليو 1911، التي نقلت أدلته لإثبات نظريته، ومنها الشواهد التاريخية، فالآمدي، إذا اشترى كتاباً لفَّ ورقةً على شكل حرف من الحروف ولصقها بالكتاب، فيلمسها ليعرف الكتاب، وثمنه. ووفقاً لزكي فقد سبق الآمدي، برايل، بنحو 600 سنة، في اكتشاف القراءة باللمس، مطالباً الغربيين بالاعتراف بأحقية زين الدين الآمدي، بهذا الاختراع.

وكان المؤتمر، الذي شهد ما سبق، احتفل بمرور ستة قرون على رحيل الآمدي، المخترع الأول لقراءة العميان باللمس، فوافق زكي باشا معظم الحضور، وصفقوا لبحثه تأييداً وإعجاباً. واللافت أن بشير الغزي، مبعوث حلب، عارض أحمد زكي، معتبراً قراءة العميان بالأحرف البارزة، كانت متداولة عند العرب، قبل الآمدي بقرون. واستدل ببيت أبي العلاء المعري، الوارد في ديوانه، (لزوم ما لا يلزم): كأَنَّ مُنَجِّم الأقوامِ أَعمى لديه الصُحفُ يقرؤها بلمسِ ووجدتُ الأستاذ عبدالسلام هارون، في (كُنَّاشة النوادر)، أشار إلى الموضوع ذاته.

وأياً يكن، فالحقيقة، أن الشواهد التي أوردها الأساتذة العرب، لقراءة بعض أذكياء العميان باللمس، صحيحة، لكنها لم تتحول إلى منهجٍ علمي تعليمي إلا مع الفرنسي، لويس برايل (ت 1852م)، ولا ضير في ذلك، فالبشر يبنون على علوم وثقافات بعضهم البعض، ويُكمل اللاحق فيهم، ما بدأه السابق، وهذا من معالم تحضر الإنسانية، وتقدم البشرية. ويحسن أن نختم بطرفة من طرائف العميان، ومن أشهرهم الشاعر الفحل، بشّار بن برد، وكان كفيفاً، فسأله متحذلق: ما أذهب الله كريمتي مؤمن (عينيه)، إلا عوَّضَه عنهما خيراً، فبماذا عوَّضَك؟ فرد بشّار: بعدم رؤية الثقلاء أمثالك! كفانا الله وإياكم شرور الثقلاء، وأدام علينا وعليكم الصحة والعافية، والله يحفظكم.

* السفير السعودي لدى الإمارات.