من بين العديد من الآثار والتداعيات التي تسببت فيها الحرب الروسية-الأوكرانية الدائرة حاليا، أثرها البارز بشدة على خريطة الطاقة العالمية في المستقبل المنظور.

ولا يقتصر الأثر على قطاع الطاقة العالمية فقط على الإخلال المؤقت بالتوازن بين الطلب والعرض في سوق الطاقة العالمي، ولا على ما يسببه هذا الخلل في الارتفاع الحالي في أسعار النفط والغاز عالميا، بل هناك شواهد عديدة تؤكد أن خريطة الطاقة العالمية نفسها على موعد قريب مع تغيرات عميقة في اتجاهاتها، ومفاتيحها، ومقاييسها، ومؤشراتها.

فأما عن الاتجاهات المتوقعة لخريطة الطاقة العالمية المستقبلية وخطوط تجارة الطاقة بين دول وأقاليم العالم، فمن الواضح جلياً أن محاولات روسيا للتغلب على العقوبات الغربية على تجارتها الخارجية سيدفعها شرقاً وجنوباً باتجاه آسيا. وفي ذلك، من المحتمل بشدة أن تتجه تجارة النفط والغاز الروسي باتجاه الصين والهند.

وفي المقابل، فإن الاعتماد الأوروبي المتنامي على استيراد الطاقة عبر الأطلسي من السوق الأميركي، مع زيادة أهمية الغاز المتأتي من دول شرق المتوسط وغربه، كل ذلك قد يفكك ويعيد تركيب الروابط التجارية الحالية لخريطة الطاقة بصورة مختلفة تماماً عن ذي قبل، وخصوصاً في الإقليم الأوروبي الذي يجاهد حالياً لاستبدال الطاقة الروسية من مصادر أخرى تتسم بالاستدامة.

وأما عن التغير المحتمل لمفاتيح الخريطة العالمية للطاقة، فإن التكتلات القائمة حالياً في سوق الطاقة العالمي، ولا سيما تكتل منتجي النفط أوبك وأوبك+، مطالبة، وأكثر من أي وقت مضى، باستيعاب هذه الأزمة العميقة في السوق والاستعداد السريع لتبعاتها عبر مزيد من التنسيق في أنشطة الإنتاج، مع ضرورة إعادة النظر فيما تبنيه من خطط وبرامج وما ترسمه من سيناريوهات طويلة الأجل. وفي ذات السياق، ستزيد الظروف الاستثنائية الحالية في سوق الطاقة التقليدية من حوافز ترشيد استهلاكها أو التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، مع ما يعنيه ذلك من زيادة كبيرة متوقعة في الإنفاق على أنشطة تطوير التكنولوجيا فائقة التطور في المراكز العالمية لأبحاث الطاقة.وبالتأمل في مقاييس ومؤشرات الخريطة العالمية الحالية للطاقة، ونتيجة للتقلبات الشديدة التي أحدثتها الحرب الروسية-الأوكرانية في سوق الطاقة العالمي، فإن مقياس المكانة الدولية لمنتجي الطاقة العالميين مرشح للتغير السريع، إذ لن تعتمد هذه المكانة مستقبلاً على قدرات الإنتاج المحلية وحدها، بل ستعتمد بالأساس على مؤشرات النفاذ للأسواق الدولية وعلى قدرات تصريف هذا الإنتاج عالمياً.

وبالمثل، فإن التغير المحتمل في خريطة الطاقة العالمية سيؤثر مباشرة على تكاليف نقل الطاقة واللوجستيات المرتبطة بها، بل يمكن أن يمتد هذا التأثير ليصل إلى حد تغيير شكل خريطة النقل الدولي برمتها. وعلى ضوء ما سبق، فمن الأهمية بمكان القول إن كل تغير متوقع في خرائط الطاقة العالمية يتعين أن يواكبه – وبالأحرى يسبقه – تغير في هيكليات الاستراتيجيات الاقتصادية للدول شديدة الحساسية لأوضاع هذه الخرائط ولا سيما دول الخليج العربي.

*تريندز للبحوث والاستشارات