لم يكن الحدث الأوكراني الروسي منفصلاً عن الإرث التاريخي، فهو امتداد لإرث ولحروبٍ قديمةٍ عسكريةٍ وإثنية وعرقية واستراتيجية بين الجانبين، والحدث  غير بعيدة عن انتقامٍ لم يكتمل في الحروب العالمية، وهذه قصّة طحنت بحثاً في الوسائل والميديا.

ولكن ما يهمنا من هذه الزوبعة أن الحدث العسكري بطبيعته لايمكن  حصره في نتائج محدودة، وبخاصةٍ أن الحرب صارت سياسية واقتصادية دولية دخلت بها بشكلٍ أو بآخر دول كبرى بالعالم ومن بينها الصين.

منذ زمنٍ طويل والحديث عن مصير القطب الأوحد ومدى استمراره في الهيمنة موضع سجال، التخلي الأميركي عن المهمات التقليدية والتاريخية بدا بوضوح منذ عام 2014 حيث الأزمة السورية، حينها تحدّث الأكاديمي الرفيع فؤاد عجمي عن أوباما ووصفه بـ«هوديني العصر» (ساحر الإخفاء) وكتب مقالته الشهيرة:«الساحر، أوباما، جعل سوريا تختفي» نشره في موقع ذي كارافان - معهد هوفر - جامعة ستانفورد الأميركية، وتبعه بعدد من اللقاءات التي اعتبر بها موقف الإدارة الأميركية من أزمات الشرق الأوسط إنما يعبر عن تراجعٍ تاريخي، ونكسة لمهمة الإمبراطورية الكبرى التي غيّرت من مسارات المجازر عبر التاريخ ومن أشهرها التدخل في حرب البوسنة والهرسك وقيادة «اتفاقية دايتون للسلام» وحرب تحرير الكويت.

الموقف من التململ الأميركي إزاء أزمات العالم كان غاضباً وبخاصةٍ بعد الانسحاب الأميركي الجهنمي من أفغانستان، بما يشبه الأفلام الجنونية، حيث يشعل البطل النار من خلفه ويهرب، وليذهب من تأكله النار إلى الجحيم.ورثت «طالبان» جيشاً ومعداتٍ مهولة لتكون التركة العسكرية الطالبانية الموروثة من أميركا أكبر من جيوش دولٍ مجتمعة.

الآن لم يعد الغضب من أميركا  قائماً، بل تحوّل إلى موضعٍ فهمٍ وتحليل من سياسيين وقادةٍ كبار، ومن ذلك ما ذكره معالي الدكتور أنور قرقاش المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، في محاضرةٍ له بمجلس صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد.

الدكتور أنور طرح ملاحظاتٍ حيوية منها أن:«الأزمة الأوكرانية التي تهدد بالتصعيد الأفقي والعمودي، أزمة رئيسية سيكون لها تداعياتها الخطرة على النظام الدولي. التغيير هو القاعدة في النظام الدولي، وهذه التحولات والمتغيرات مترابطة، ونشهدها حالياً في مرحلة المخاض العالمي نحو نظام متعدد الأقطاب، بعيداً من حالة التفرد والزعامة الأحادية. الهيمنة الأميركية على النظام الدولي ظاهرة تاريخية حديثة نسبياً، وهي اليوم تمر في حالة أشبه ما تكون بالاختبار، في ظل بروز قوة أخرى طامحة لمنافسة الزعامة الأميركية، وهي ليست منافسة سياسية أو عسكرية، بل في شق كبير منها اقتصادية وعلمية، فالكثير من الدول تسعى لتغيير لهذا الواقع. التحولات في الثورة الصناعية، ونشهد الثورة الرقمية المستندة إلى العلوم والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والروبوتات، ومن الطبيعي انعكاس ذلك على طبيعة النظام الدولي. وهناك الصعود الصيني، إذ تمثل الصين اليوم قوة صاعدة وعملاقاً اقتصادياً من الصعب كبح جماحه، ولديها من القدرات».

وبالفعل، فالنظام العالمي واجهته تحدياتٍ كبرى، وتمثّل المعركة الدولية اليوم أخطر هذه الزلازل، يذكّرنا هنري كسينجر في كتابه:«النظام العالمي:» بأن:«النظام الوستفالي العالمي المعاصر الآن - ما يعرف باللغة الدارجة باسم الأسرة العالمية – ظلّ دائباً على السعي لاختزال الطابع الفوضوي للعالم عبر استخدام شبكة واسعة من البنى الحقوقية والتنظيمية الدولية المصممة لرعاية التجارة الحرة ونوع من النظام المالي الدولي المستقر، لترسيخ مبادئ مقبولة من أجل حل النزاعات الدولية، ولوضع حدود لخوض الحروب إذا ما نشبت. ومنظومة الدول هذه تضم الآن سائر الثقافات وجميع المناطق. ظلت مؤسسات المنظومة توفر الإطار المحايد لتفاعلات مجتمعات متنوعة -  بعيداً إلى حد كبير عن قيمها الخاصة. غير أن مبادئ وستفاليا تبقى عرضة للتحدي من جميع الجهات، باسم النظام العالمي بالذات أحيانًا».

تحوّل موقف دول حليفة تقليدياً في المنطقة لأميركا من موقف الغاضب إلى موقف الدارس وطارح الخيارات البديلة شكّل صدمةً للإدارة الأميركية، وهي تبحث عن سبلٍ لاستعادة  ما تبقى من «ثقة» بين الحلفاء لتثبيت مصالحها التي ثبت لديها بعد الحرب الأخيرة بأنها ضرورية. دول الخليج وعلى رأسها السعودية والإمارات لها ثقلها الكبير ولها قوتها وتأثيرها السياسي والاقتصادي وهذا ما اختبرته إدارة بايدن التي كانت تجادل بأن هذه العلاقات ليست ضمن الأولويات في العمل والحكم.
* كاتب سعودي