عندما خرجت الولايات المتحدة الأميركية من الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة عالمية، اتجه قسم كبير من علماء ومفكرو السياسة إلى تحويل ذلك الانتصار وتطويعه لخدمة الهيمنة الأميركية الاقتصادية والعسكرية والثقافية والاجتماعية، وبدأوا، وبكل ما لديهم من قوة، وبشتى الطرق لإعادة تشكيل مفهوم قوة الدولة، لنسف مفهوم الحدود الطبيعية وتكريس مفهوم الحدود الشفافة التي يسهل اختراقها من دون آليات ومعدات عسكرية، وقاموا باستخدام مطارق علمية حادة لتحطيم نظريات علوم الجيوبوليتك التي أثبتت عدم صحتها، وقرروا أنه ليس هناك شيء يُدعى حدود خرائط للدولة، والتي أصبح لاحقاً ما يعرف بجغرافية السيطرة من دون إمبراطورية.

واحتراماً لمن سبقهم قالوا، إنما هذا تجسيد لتطوير علوم وأفكار الجيوبولتيك، وتجديداً في الأطر التقليدية لنمو الدولة العضوي. لا يمكنني أن أتخيل شيئاً يشبه «كذبة الحرب الباردة»، فالأميركان، الذين علموا بحتمية تطويع النصر في الحرب، قرروا أيضاً غزو العالم أجمع، وصحيح أنهم استخدموا استراتيجية تعتمد ظاهراً على محاربة الشيوعية، وتكريس الرأسمالية، ونشر العدالة والحرية والديمقراطية، لكنهم في واقع الأمر، كانت لديهم أهداف أكثر عمقاً من الناحية الاستراتيجية، كانوا يريدون أن يصبح العالم كله هو المجال الحيوي ليس للصناعة والزراعة والتجارة الأميركية فحسب، بل للفكر والثقافة من خلال تراجع فكرة المواجهة ودعم أفكار اللامواجهة على الإطلاق، ولذلك تطورت بسرعة لديهم علوم الحاسب الآلي وظهر الإنترنت والتحول الرقمي الذي قادهم إلى الحروب الالكترونية والسيبرانية، التي أسست لتغير عوامل قوة الدولة الطبيعية والبشرية.

كذبة الحرب الباردة، كما هي باقي الأكاذيب العملاقة، ليست كذبة بالمفهوم التقليدي، أي لم يكن هناك مؤامرة مخططة جيداً لنشر مزاعم حول هذا المصطلح وايهام العالم، في أميركا وخارجها بخوض معركة طاحنة حقيقية، فهو في واقع الحال مجرد مصطلح لغوي ظهر في القرن 14 وجاء على لسان الملك الإسباني خوان إيمانويل ثم تداوله الكاتب الإنجليزي جورج أورويل في مقال له عام 1945 بعنوان «أنت والقنبلة الذرية» ثم الاقتصادي الأميركي برنارد باروش عام 1947 وكل من الصحفيين هربرت بايارد وولتر ليمان، أي أنه لم يكن هناك ثمة حرب بدأت وانتهت وسميت بـ«الحرب الباردة»، لكن تم توظيف المصطلح بشكل مكثّف لوصف حالة السباق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الفترة 1945-1991.

قد يتساءل البعض: إذا لم تكن حرباً باردة فماذا كانت؟ والحقيقة أنها كانت مجرد سباق للتسلح النووي والإنجاز العلمي والتقدم الصناعي والزراعي والهيمنة الدولية، تجري كل دقيقة، في الساحتين الأميركية والروسية، وانضمت لها ساحات الصين وبريطانيا وفرنسا، ثم دول مثل اليابان ودول في الاتحاد الأوروبي كألمانيا.

أما باقي دول العالم، فقد بقيت تراقب وتتابع تطورات حرب غير موجودة، وإنما هي محض خيال ابتدعه الأميركان لتصوير انتصارهم في حرب مزعومة من ناحية، ولخلق فراغ كبير بين إنجازاتهم العسكرية والعلمية، مع الدول التي تحاول اللحاق بهم، والذي أفضى أيضاً، إلى تطوير حلف شمال الأطلسي (الناتو) من معاهدة بروكسل (1948) إلى المعاهدة الخماسية (أبريل 1949) وتوحيد ألمانيا (1990) وتفكيك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو (1991) وعودة فرنسا بعضوية كاملة (2009) وانضمامها إلى هيكل القيادة الرئيسية لحلف الناتو الذي أصبح يتمتع بعضوية 30 دولة.

الاستراتيجيات السياسية والعسكرية الأميركية السرية تقوم على إبقاء وإشغال الخصوم، وحتى الأصدقاء والشركاء أحياناً، في مرحلة ومنطقة جدال ونقاشات وهمية بعيدة عن المرحلة الحقيقية التي وصلتها الولايات المتحدة على أرض الواقع، فبينما تظن روسيا والصين مثلاً أن هدف الولايات المتحدة الحالي هو ضم أوكرانيا إلى «الناتو»، وتهديد الحدود الروسية وتحجيم الصين اقتصادياً وعسكرياً يكونون متقدمين بشكل ملحوظ في تنفيذ استراتيجية مستقبلية تخدم المصالح الأميركية على المدى البعيد، وتصوير وجود حرب باردة أو ساخنة أخرى هنا وهناك، وتحييد كافة التهديدات المستقبلية، واحدة تلو الأخرى، لمضاعفة قوة وقدرة الدولة الأميركية على اختراق سهل للحدود الشفافة حول العالم، ولضمان المحافظة على الكيان الأميركي المتماسك والمتقدم، بأي ثمن ممكن.

بالطبع، يحق للأميركان أن يضعوا لأنفسهم أية استراتيجيات بعيدة المدى، راسخة وعميقة، كما يحق للأوروبيين أيضاً، أو أن يختاروا أن يكونوا جزءاً من الحلم الأميركي فقط، وهو الأمر ذاته بالنسبة لروسيا والصين، ولكن دول الشرق الأوسط، باتت بعيدة جداً عن هذا الركب الذي لم يتوقف عن السباق منذ الحرب العالمية الأولى، والذي تحاول دولة الإمارات العربية، بما لديها من أفق ورؤية وخطط واستراتيجيات، تشجيع الجميع على المشاركة الفاعلة، من خلال إرساء السلام أولاً في المنطقة، ثم أهمية وضرورة التقدم العلمي والعسكري والاقتصادي، بأي ثمن ممكن.

* لواء ركن طيار متقاعد