يذكر الماوردي (توفي 450هـ/ 1058م) في كتابه «أدب الدنيا والدين» أنّ قواعد صلاح الدنيا ست وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح. أما الدين المتبع فلأنه باعثٌ على الثقة والسكينة؛ أي الثقة بالله عز وجلّ، والسكينة إلى رحمته بالتوكُّل عليه. وبهذين الأمرين صام الناس شهر رمضان، وأفطروا على الاطمئنان إلى انتظام الأمور في أُسَرِهم ومن حولهم باعتبار أنّ المصدر للهدوء في العيش القريب هو اعتقاد الاستناد إلى مَنْ يؤمنون به جميعاً ويدعونه فيستجيب لهم.  

  إنّ الواحد منا يصطحب في خَلَده وحركته مصدر السكينة، ويمضي باتجاه قواعد استقرار دنياه، وأولُها السلطان القاهر. وقد كان هذا التعبير سائداً في أدبيات الأزمنة الكلاسيكية، ومن المفكرين مَن يتحدث عن سلطان الكفاية والشوكة. والشوكة تعني في هذا السياق الدفاع عن المجتمع والدولة تجاه الخارج.

أما الكفاية فتعني الكفاءة في إدارة الشؤون الداخلية ومنها الأمن المرتبط بحماية الحياة والحقوق. بعض الذين كتبوا عن خُطاطة الماوردي هذه قالوا إنها تشبه خطاطة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، بمعنى أنّ السلطان القاهر هو الذي يَحول بقوته وضبطه دون نشوب حرب الجميع ضد الجميع بسبب تغالب المطامع والأهواء. ولأنني عملتُ على الماوردي طويلاً وأعدْتُ نشر بعض نصوصه، فقد فهمْتُ أنّ أمن الناس من الناس يستند عنده بالدرجة الأولى إلى سلطان الدين المتبع. أما الركن الآخر للأمن فهو عنده الاستقرار الذي تؤمِّنه السلطة السياسية. وهو استقرارٌ فيه عناصر ضغط، وكما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، فـ«إنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

إنما العوامل التالية هي التي تقيم عن طريق السلطان: المجتمع الصالح، والعدل الشامل، والأمن العام. فعدل السلطة، القضائي والسياسي، هو أول دواعي الاستقرار والأمن. وإجراءات السلطة ومبادراتها هي التي تصنع الخصب الدائم والأمل الفسيح. يقول كُتّاب «مرايا الأمراء» الكلاسيكيون إنه حتى الخصوبة لا علاقة وثيقةً لها بهطول الأمطار مثلاً بقدر ما لها علاقة بعدل السلطان وما تبعثه مبادراته من إحساسٍ للزراع والتجار بالراحة وإقبالهم على البناء والإعمار. لأنّ الإنسان لا ينصرف إلى البناء المستقبلي إلاّ إذا كان عنده «أملٌ فسيح» يدفع للنشاط وصنع الجديد والمزدهر.

    لقد أردتُ بمناسبة عيد الفطر بالإمارات، وما ظهر من انطلاق الناس وحبورهم وعملهم وأملهم، أن أستظهر نجاحات الدولة الوطنية التي وفّرت بالعدل والمبادرات البيئات الصالحةَ للسعي والعمل في المديات المتوسطة والطويلة.  

  إنّ تجربة الدولة الوطنية بالإمارات هي تجربة نجاحٍ ممتدّ، لا يتوقف عند حدودها بل يتعدى ذلك إلى الجوار والعالم. وهناك اقترابٌ مستمرٌّ من معنى المواطنة الشاملة التي تصنع دولتُها الرخاءَ والسلامَ لشعبها ولمن حولها وفي الآفاق العالمية. العالم مليءٌ بالأزمات. لكنّ هذه الدولة الميمونةَ تؤسس على الأمن والعدل والتضامن لشعبها، مبادرات واعدة لصنع الاستقرار والسلام. فبدلاً مما يفعله آخرون من تعدية عدم استقرارهم إلى الآخرين، هناك إمكانياتٌ لأن يصنع الاستقرار الإماراتي والسلام الإماراتي نماذج في الجوارين القريب والبعيد.  

   *أستاذ الدراسات الإسلامية -جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية