يحكى أن رجلاً مسيحياً تسلم وزارة الأوقاف في سوريا، وخطب من على منبر الجامع الأموي الكبير، ليُحمل على الأكتاف من قبل المسلمين من سكان دمشق.. نعم هو فارس الخوري، السياسي السوري الذي شغل منصب رئيس الوزراء ووزير الأوقاف في عام 1944، وحينها قال أحد النواب إننا نأتمن فارس الخوري على أوقاف المسلمين أكثر مما نأتمن أنفسَنا عليها. ويقال أيضاً إنه صعد إلى منبر الجامع الأموي ليرد على ما قاله الجنرال الفرنسي «غورو» من أنه جاء إلى سوريا لحماية المسيحيين من المسلمين، فرد فارس الخوري بأن قال من على المنبر: «إن فرنسا ادعت أنها جاءت لتحمي المسيحيين في الشرق، وأنا كمسيحي أقول إنني أشهد أن لا إله إلا الله، فنحن نعبد رباً واحداً».

هكذا كان سكان البلدان العربية التي لم تكن تفرق بين الأديان، حيث كان المسلمون والمسيحيون واليهود يعيشون في وئام وسلام، ومعيار إخلاص أي منهم مرتبط بخدمته لوطنه وولائه له.. هكذا كنا قبل عشرات السنوات، نذكر الناس دون أن نفرِّق بينهم، وهذا جوهر التسامح والاندماج في وطن واحد.

وفي الوقت الذي كنا نشْخص بأعيننا في بلاد العرب قاطبة لنتابع حادثة مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة في مخيم جنين أثناء عملها في تغطية إخبارية لتسقط برصاصة مباشرة في الرأس، خاض البعض على مواقع التواصل جدلية جديدة قديمة طالما تكررت، حيث انطلق الحديث عن جواز الترحم عليها كونها تنتمي للديانة المسيحية، وتناسوا أنها فلسطينية أولاً وأنها خدمت شعبها ووطنها وعملت على نقل الخبر لتخدم رسالتها الإعلامية أيضاً. وفيما نبحث عن الحقيقة وكيف قتلت المراسلة الصحفية ونجادل حول مخاطر المهنة وحرية الصحافة وواجب حماية الصحفيين، يقوم البعض بخوض نقاش محتدم حول جواز الترحم على مسيحية من عدمه، في جدلية عقيمة بعيدة كل البعد عن ثقافتنا العربية والإسلامية.

لن أخوض في الجانب الفقهي هنا، لكني سأتناول الجانب الإنساني. فكلمات الترحم قد لا تعني شيئاً لشخص غير متدين أو من ديانة أخرى، لكنه يفهم منها أنك كإنسان تتعاطف معه ومع مصابه حين تذكر هذه الكلمات. وهنا لفتتني بعض التعليقات الإيجابية على مواقع التواصل حيث تساءل أحدهم: «كيف يمكنني أن أتزوج مسيحية وأنجب منها أطفالاً مسلمين، ولا أترحم عليها إذا ماتت وهي أم أطفالي؟». إنه سؤال مشروع، لكن للأسف هناك تعليقات وردود قاسية تظهِر جانباً غير إنساني من قبل البعض، وهم المنتمون لتيارات الإسلام السياسي مثل «الإخوان»، ممن خاضوا في هذا النقاش الذي لا ينتهي، بل يتجدد كلَّما فقدنا شخصيةً اعتباريةً غير مسلمة في عالمنا العربي.

من المؤسف حجم الإسفاف والبعد عن القضية الرئيسية، فالناس مشغولون بقضية هذه الصحفية ودورها وتضحيتها، فيما يطلق بعض المتشددين العنان لنقاش في غير موقعه وغير توقيته، ويثيرون نعرات دينية يجب أن نكون بعيدين عنها. فمرة أخرى يجب أن يقاس الأشخاص بمدى حبهم وولائهم لوطنهم وخدمتهم لهذا الوطن وليس حسب قوميتهم أو عرقهم أو دينهم.. وهذه هي الوطنية الحقيقية. وعلينا أن نعود كما كنا دائماً، نتحلى بمقاييس أخلاقية لا تتجزأ.

فلماذا في العالم العربي كنا أكثر تسامحاً في السابق؟ ولماذا أدخل البعضُ التطرفَ من الباب الواسع ليعيث فساداً في دول كانت من خير البلدان؟ ومَن هؤلاء الذين يسعون لدمار الأوطان من خلال إثارة النعرات؟ ولماذا تتاح لهم المنابر ويتأثر بهم كثُرٌ؟ إنها أسئلة تستدعي الإجابة حتى نكون على بينة من موقعنا الإنساني على خريطة العالم.

*كاتب إماراتي