لكي نتعرَّف إلى مستقبل هذه التقنية علينا أولاً أن ننظر إلى ماضيها، وكيفيَّة تطوُّرها، ما يكشف عن التحديات القائمة، وأسباب تطبيق هذه التقنية على نطاق ضيِّق إلى الآن برغم كل المحاولات والجهود لتفعيلها جدِّيّاً في قطاع الإنشاءات والبناء.

بدأت تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد عامَّةً في قطاع الصناعة منذ الثمانينيات من القرن الماضي، إذ كانت تُستخدَم لصناعة النماذج التجريبيَّة السريعة، وكان يطلَق عليها اسم التصنيع بالإضافة -أي إنشاء أجسام مادِّية بتكويم طبقات رقيقة من المواد بعضها فوق بعض (مثل الشرائح البلاستيكية، أو البوليمرات) حتى تأخذ الشكل النهائي المطلوب-، وتُنشأ هذه الشرائح باستخدام فوَّهات موجَّهة روبوتيّاً تحاكي النماذج ثلاثية الأبعاد المرسومة في برامج التصميم الهندسي.

وتختلف هذه الطريقة عن التصنيع المعتاد بطريقة الإزالة، التي تعتمد على إزالة المواد من مادة خام صلبة بالحفر أو الخراطة، لتأخذ شكلها النهائي المطلوب، فالتقنية في حدِّ ذاتها ليست جديدة، ولكنَّ الجديد أنه مع تطور الروبوتات والمواد المستخدَمة في الصناعة بالتجميع، أو ما يطلق عليه حديثاً الطباعة ثلاثية الأبعاد، أمكن تصنيع أجسام عالية الكثافة تصلح جزءاً من مكوِّنات المنتَج النهائي، بعدما انحصر استخدامها في صناعة النماذج التجريبيَّة.

وهذا التطوُّر الذي شهده قطاع الصناعة ألهم الباحثين في قطاع الإنشاءات أن يدرسوا إمكانية تطبيق الأسلوب نفسه باستخدام آلات كبيرة الحجم تناسب حاجات البناء، واستخدام الإسمنت غير المسلح، فكانت أول ورقة علمية تنشر بهذا الصدد فى مجلة automation in construction عام 2004.

وإذ كانت التقنية في المهد، وفي طور التجربة، أعلنت شركة صينية تدعَى WinSun سنة 2014 أنها طبعت في يوم واحد فقط عشرة بيوت بمساحة 200 متر مربع لكل بيت، باستخدام مواد أسمنتية مستدامة معادة التدوير، ممزوجة بإضافات كيماوية تحل مشكلة فنية جوهرية لهذه التقنية.

ونال هذا الخبر تغطية إعلامية واسعة النطاق، ولاقى استحسان بعض الحكومات التي أصبحت تتطلَّع إلى هذه التقنية بصفتها مستقبل قطاع الإنشاء والبناء. وبغضِّ الطرف عن مدى صدقيَّة الشركة، فقد استطاعت إقناع الحكومات بالنظر إلى هذه التقنية بجدِّية، والاستثمار في تطويرها، وكانت دبي من أوّل المدن التي تبنَّت الفكرة عام 2016 في بناء مكتب المستقبل، الذي استغرق 17 يوماً لطباعة عناصره في المصنع، ويومين للتركيب في الموقع. وآنذاك نُشِرَت بحوث كثيرة، وأُسِّسَت شركات ناشئة كثيرة متخصِّصة بالطباعة ثلاثية الأبعاد للمباني، أسهمت كلُّها في تطوير الطباعة ثلاثية الأبعاد، سواء من ناحية التقنيات الروبوتية، أو المواد المستخدمة للطباعة.

والمعضلة الأساسية التي تواجه هذه التقنية هي الموازنة بين خصائص متضادَّة للمادة الأسمنتية المستخدَمة، أي سيولة المادة وسهولة تدفُّقها من فوَّهة الطابعة، وسرعة معالجتها لتصبح صلبة بما يكفي قبل إنزال الطبقة التي تعلوها، حتى لا تفقد الأولى ثباتها وشكلها المطلوب.

وهنا يكمن التحدِّي في هذه الموازنة الصعبة بين السيولة والصلابة، إذ تتطلَّب التحكم الدقيق في عوامل عدَّة، منها سرعة الطابعة، ودرجات الحرارة، والرطوبة الخارجية، إلى جانب الخلطة الأسمنتية، والإضافات المستخدَمة فيها، ولذلك يتطلَّب تطوير تقنية الطباعة الثلاثية خبرات من مهندسين مدنيين، ومتخصصين بالميكاترونكس، والروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من التخصُّصات.

وعلى سبيل المثال يتكون فريقنا البحثي في هذا المجال بجامعة الإمارات من أساتذة متعدِّدي التخصصات، منها الحاسب الآلي، والروبوتات، والهندسة الميكانيكيَّة، إلى جانب قسم الهندسة المدنية، وقد وُفِّقنا في نشر بحوث عدَّة، وسجَّلنا براءة اختراع بابتكار فوَّهة لطباعة مواد مركَّبة عازلة للحرارة، ولكن برغم كل الجهود البحثية على مستوى العالم تبقى التقنية إلى يومنا هذا برأيي في مهدها، ولا ترتقي -كما يُرجَى لها أحياناً- بديلاً لأساليب البناء التقليدية التي طوَّرها المهندسون والعلماء على مرِّ العصور، ولكنَّ ما نرجوه هو أن تُستخدَم في المستقبل بصفتها تقنية مكمِّلة، تتيح بعض الفرص، وتحل بعض تحديات القطاع، التي تتلخَّص في ثلاثة جوانب:

1- بناء عناصر خرسانية معقَّدة الشكل بالاستعانة بتقنية الطباعة ثلاثيَّة الأبعاد، بصناعة قوالب إسمنتيَّة مطبوعة بديلة للقوالب الخشبية التي يصنعها النجارون في الموقع، التي يصعب تشكيلها كما يتمنَّى أي معماري، وتُمكِن صناعة هذه القوالب الأسمنتية المطبوعة بأشكال فنية مختلفة، ثم تُصَبُّ الخرسانة المسلحة داخلها بالطريقة المتعارَف عليها، والفائدة هنا تكمن في فتح آفاق جديدة للمعماريين المبدعين، الذين يتقيَّدون غالباً بالأشكال المربعة والمستطيلة لتفادي صعوبة تنفيذ تصميماتهم.

2- بناء عناصر غير إنشائيَّة، مثل جدران الفواصل، بخلطات مبتكَرَة عازلة للحرارة، أقل تكلفةً وأعلى كفاءةً من المواد المستخدَمة حاليًّا.

3- طباعة إكسسوارات المباني، مثل مقابض الأبواب، وقطع الحمامات والمطابخ، والوصلات الميكانيكية، وغيرها، ولكن هذا مجال مختلف عن طباعة العناصر الكبيرة للمبنى التي نتحدث عنها هنا، ويدخل في باب الطباعة الصناعيَّة اعتماداً على طابعات متطوِّرة تستخدِم الحديد والألمنيوم.

وتتركَّز الفرص، التي تقدمها تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد حاليّاً في تلك المجالات، أمَّا التطلُّعات إلى نقلة نوعيَّة في قطاع الإنشاء والبناء لمضاعفة سرعة البناء، وتقليص تكلفته، وتحسين جودته من حيث التصميم والتنفيذ، فقد تتحقَّق بالتركيز على التصنيع المسبَق، والإنشاء المركَّب modular construction، ولعل مبنى مُتحف المستقبل، الذي دشنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، خير مثال على ما يمكن تنفيذه متى نقلنا جُلَّ العمليات الإنشائية إلى المصانع، وقصرنا جهودنا في الموقع على التركيب والتشييد.

د.حمد عبدالله الجسمي*

* أكاديمي إماراتي