بين حين وآخر نسمع ونقرأ عن جرائم تهز كيان الإنسان وتقض مضجعه، فماذا وإن كان القاتل شاباً وضحاياه معظمهم من الأطفال. الشاب الأميركي ذو الأعوام الثمانية عشر عاماً يُردي برصاص بندقيته 21 ضحية، من بينهم 19 طفلاً، ومعلمتان. تلك الحادثة الفظيعة شهدتها مؤخراً مدينة أوفالدي جنوب تكساس، وهي ليست الأولى في الولايات المتحدة، حيث تتكرر كل عام تقريباً.
هذه الجريمة وسواها مما يحدث في الولايات المتحدة تجدد النقاش حول قانون حيازة السلاح الذي أقره الدستور الأميركي وأدرجه في إطار احترام الحرية الفردية. وقضية امتلاك السلاح من دون شروط تقييدية واضحة تدفع بها لتكون دوماً موضع تجاذبات سياسية، والحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري» على وجه التحديد في صراع دائم حولها، وحتى اليوم لم يتمكن «الديموقراطيون» المناهضون للقانون من التقدم ولو خطوة واحدة نحو وضع شروط تقييدية لكل من يرغب بامتلاك سلاح فردي.
الرئيس الأميركي جو بايدن في خطاب متلفز دعا إلى حظر بيع بنادق للأفراد، فيما أعلن الرئيس الأسبق دونالد ترامب عن انحيازه لاستمرار السماح باقتناء السلاح قائلاً (المجزرة سبب لاقتناء السلاح وليس نزعه).
القصص التي روتها القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية مثل (ايه بي سي نيوز، دايلي بيست، سي بي سي نيوز، سي إن إن) تلتقي كلها عند نقطة واحدة، وهي أن حرية بيع السلاح والدروع والسترات الواقية جعلت الآباء والأمهات يودعون أبناءهم كل صباح وهم ذاهبون إلى مدارسهم.
والولايات المتحدة إحدى ثلاث دول على مستوى العالم لا تفرض قيوداً على حيازة السلاح. والقانون الأميركي يمنح أي شخص حق اقتناء الأسلحة على اختلاف قوتها ودقتها، وهو القانون الذي يؤيده لوبي صناعة وتجارة السلاح صاحب النفوذ الكبير في أميركا. وبالتالي فإن أي تعديل على القانون مرفوض من هذا الطرف، وكل من يستفيد من عمليات صناعة وبيع الأسلحة. وهذا اللوبي تحول إلى قوة عظمى لها تأثيرها البالغ في الانتخابات، كما أن المتحكمين به لن يضحوا بمليارات الدولارات التي يكسبونها سنوياً، وفي المقابل لن يستطيع الرئيس الأميركي الضغط على الكونجرس لإصدار تشريعات تضبط هذا الموضوع الذي يؤرق الناس في أميركا.
لن يفكر صانعو الأسلحة والبائعون لها بعواقب استخدامها من قبل القتلة، ولن تبكي أعينهم الضحايا من العزّل صغاراً وكباراً، لن ترف جفونهم وهم يشاهدون الأهالي المكلومين، ومن يدري فربما لا يعيرونهم الانتباه ولا الاهتمام ليشاهدوا صورهم وهم يدفنون أحبتهم ويرمون الورود على جثامينهم ويشعلون الشموع لإحياء ذكرى ضحاياهم الذين أُزهقت أرواحهم بطرفة عين ودم بارد.
إن نتائج هذه الحوادث المؤلمة لم تتمكن حتى اليوم من الضغط على صناع القرار لوضع حد لبيع السلاح لمن يريده، وبالتالي لوقف جريمة تتكرر بين حين وآخر. أما تفاصيل ما حدث بعد «المقتلة» الأخيرة فهي تدمي القلب. فماذا لو أن الأم أنصتت لابنتها ولبت رغبتها بعدم إرسالها إلى المدرسة في ذاك اليوم؟ وهل بالفعل زف الأب ابنته عروساً إلى السماء وهو يدفن جسدها الصغير؟ كل ما أنا على يقين به أن الجرح لن يندمل، والألم لن يخف، وذكريات الضحايا لن تختفي بمجرد أنهم لم يعودوا موجودين في حياتنا. أسرهم ستحيي ذكراهم كل يوم وفي كل «عرس دم» آخر، فيما صناع وتجار السلاح يعبثون بحياة الأبرياء غير آبهين بما حدث وسيحدث حتى وإنْ قُتلوا بما يصنعونه ويتاجرون به.