يثور الجدل في الحروب عادةً حول تحديد المنتصرين والمنهزمين، سواء في المراحل المختلفة لتطور هذه الحروب أو في نهاياتها، وباستثناء الحروب التي تكون نهاياتها بالغة الوضوح كالحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته والحرب الأميركية الأخيرة في أفغانستان، يثور الجدل عادة حول تحديد المنتصرين والمهزومين في الحروب. وحتى عندما تكون الأمور واضحة فإن الجدل يمتد إلى حسابات التكلفة. صحيح أن طرفاً قد يدخل بسهولة في عداد المنتصرين، لكن السؤال يبقى مهماً حول تكلفة النصر، فقد دخلت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية ضمن المعسكر الفائز، لكن التكلفة كانت فادحة حيث قوضت عناصر قوتها كقوة عظمى في الساحة الدولية، وبدا هذا واضحاً بالنسبة لها ولفرنسا معاً في عدوان السويس 1956 الذي لم تتمكنا فيه من تحقيق أهدافهما. كذلك انتصر العراق في حربه مع إيران (1980-1988)، غير أن التكلفة الباهظة لثماني سنوات من القتال أفضت للسلوك المدمر الذي اتبعه صدام حسين بغزوه الكويت عام 1990.. وهكذا. وفي الحرب الدائرة حالياً على الأرض الأوكرانية لا شك حتى الآن في أن روسيا قد حققت إنجازات محددة بسيطرتها، وفقاً للرئيس الأوكراني، على حوالي خمس الأراضي الأوكرانية، لكن تقييم هذا الإنجاز لا يمكن أن يكتمل دون تحديد التكلفة التي تكبدتها لتحقيق هذا الإنجاز نفسه.. وهكذا.
غير أن حسابات المكسب والخسارة تبدو شديدة الوضوح في حالات أخرى لا تتعلق بالأطراف المباشرة في الصراعات الدولية المختلفة، وعلى سبيل المثال فإن الشركات الكبرى المنتجة للأسلحة تعد دون جدال الرابحَ الأول في هذه الحالات، ففي الصراع الراهن على سبيل المثال التزمت الولايات المتحدة بمساعدات عسكرية هائلة لأوكرانيا يكفي للدلالة على حجمها الإشارة إلى إقرار الكونجرس الأميركي في مايو الماضي حزمةَ مساعدات يبلغ إجمالي قيمتها 40 مليار دولار. وما يهمنا في هذا الصدد أن الآلة العسكرية الروسية تترصد للأسلحة التي تصل لأوكرانيا بموجب هذه المساعدات وتعمل على تدميرها أولاً بأول. ومن المؤكد أنها بحكم قدرتها الفائقة تدمر نسبة يُعتد بها من هذه الأسلحة. والمشكلة أن هذه الحلقة الجهنمية تجيء على هوى جماعات المصالح المرتبطة باحتكارات السلاح الأميركية، فكما تتحرق شركات الأدوية الكبرى شوقاً للأوبئة لأنها تمثل الظروف المثلى لزيادات فلكية في أرباحها، تعرف احتكارات السلاح أن أجواء التوتر الدولي والعنف المسلح تمثل المناخ المثالي لازدهارها. فالأسلحة المُدمَّرة (بفتح الميم الثانية وتشديدها) لابد من تعويضها بأخرى، واحتدام القتال يتطلب تسليحاً أكثر عدداً وتقدماً، ومن الطبيعي في هذا السياق ألا يكون لاحتكارات السلاح النافذة أي مصلحة في وقف القتال أو حتى تهدئته. ولعل هذا يمثل الخلفية التي تقف وراء مصطلح «تجار الحروب» الذي درج المعسكر السوفيتي إبان الحرب الباردة على توظيفه في حربه مع المعسكر الغربي لتشويه صورته. غير أن هذا النوع من التفكير ليس مصدره خصوم المعسكر الغربي فحسب، وإنما يُنسب للرئيس الأميركي السابق دوايت أيزنهاور أنه صك في خطاب مغادرته مقعد الرئاسة في يناير1961 مصطلح «المجمع الصناعي العسكري» وحذّر من نفوذه المتنامي وطالب بمواجهته بالوسائل السلمية. والمعنى المُتَضَمن في المصطلح أن مثل هذا المجمع يمكن أن يمثل قوة ضاغطة خطيرة صاحبة مصلحة في إشعال الحروب واستمرارها، وهي مصلحة لا تُفيد إلا احتكارات السلاح والمصالح المرتبطة بها، وتتحمل الشعوب تبعاتها كما نرى الآن، لأن هذه المساعدات العسكرية تُمَول من موارد الشعوب، ولا يوجد أمل في كسر هذه الحلقة المُفْرَغة إلا بفضحها وكشف تداعياتها بما يساعد على التصدي لها، وليست هذه بالمهمة السهلة.


*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة