شعوبنا العربية بمجملها مأخوذة بانبهار بفكرة «الديمقراطية»، هكذا كأنها وصفة دوائية يتم صرفها من صيدليات الغرب، ويتطلعون لنماذج الدول الغربية على أنها مشروع لا يتطلب أكثر من ثورة شوارع وإسقاط أنظمة، لكنها نسيت أهم مكون لتحقيق النموذج الديمقراطي الصحي والسليم، وهو وجود الدولة، وتلك ليست مسؤولية «السلطة» وحسب، بل مسؤولية الوعي الجمعي المفقود أساساً بعد عقود طويلة من الفساد والترهل ومنظومة شبكات بديلة عن «المؤسسات والقانون»، استمرأت الشعوب العربية استحداثها بالتراكم التاريخي.
في بلجيكا مثلاً حيث أقيم وأعمل، وهي من النماذج الديمقراطية الغربية المثالية في الحكم الديمقراطي، غابت الحكومة الحزبية عن الوجود مدة 589 يوماً، وبقيت بلجيكا بلا حكومة حتى عام 2011، ودخلت بلجيكا موسوعة «غينيس» في تلك السابقة التاريخية بغياب حكومة منتخبة، لكن الدولة كانت موجودة وحاضرة بمؤسساتها القوية والمتينة وبقيت مصالح العموم تسير على نسق مؤسساتي ضمن حكم القانون بلا أي عثرات تحت ظل حكومة تسيير أعمال معينة، إلى أن توافقت الأحزاب على حكومة ترأسها شخص هو ابن مهاجرين إيطاليين، وعادت الحكومة المنتخبة إلى الحياة في المشهد السياسي البلجيكي الذي صانت وجود الدولة فيه المؤسسات وحضور القانون.
في الولايات المتحدة التي يراها الكثير نموذجاً للديمقراطية (وهي حقيقة نموذج ديمقراطي) أصر الآباء المؤسسون على فكرة الدولة في وثيقة التأسيس، وضع مفهوم الدولة كحجر أساس قبل كل شيء، وتعظيم المؤسسات والقانون فوق الأفراد، ثم الحديث بطريق مواز عن الحياة الديمقراطية، ومن هنا يمكن فهم الإصرار الأميركي، بعد أحداث اقتحام متطرفين يمينيين مبنى الكونجرس عقب انتخاب الرئيس، جو بايدن، على ترسيخ مفهوم الدولة ورمزيتها قبل الحديث عن «الديمقراطية».
في عالمنا العربي عموماً، هنالك خلط فادح بين المفهومين، وإصرار على بناء العربة المزركشة بكل زينتها الديمقراطية الملونة، قبل أن نضع الحصان (الدولة) في مكانه.
إن عربة مزركشة كاملة الزينة والرفاهية لن تتحرك سنتميتراً واحداً من دون حصان يجرها، وإن ذات العربة بكامل ألقها لا يمكن أن تسير مسافة طويلة، وهي مربوطة بحصان هزيل تنقصه العافية، بمعنى دولة حقيقية مدججة بوعي مؤسساتي سليم.
الطريق طويلة نحو مفهوم الدولة في عالمنا العربي، نظراً لتراكم الجهل بمعناه المؤسساتي الحقيقي، وغياب الوعي الجمعي خلق مؤسسات الفساد وانتشار وهم «الروح الوطنية» الذي يمكن تلبيسه على أي فئة تملك القوة، أو تملك النفوذ المجتمعي عبر «التدين» ووضع الحلول في يد السماء!
الديمقراطية «مكتملة» نظرياً في لبنان، لكن غياب الدولة المؤسساتية لحساب المحاصصات الطائفية، وضع عربة الديمقراطية في منتصف الطريق بكامل زركشتها وبهرجتها اللونية متوقفة، لأن الدولة نفسها غابت وحضرت «الزعامات»، وجماعات المصالح تتصارع على السلطة بالوكالة عن دول الخارج.
ولك أن تقيس ذات الأمر في السودان وتونس والعراق وباقي الدول التي انتفضت شعوبها للبحث عن نموذج ديمقراطي، يمكن فيه تداول السلطة! أي تداول في غياب المفهوم المؤسساتي المتين والمجرد للدولة، ككيان يجمع الجميع على اختلاف آرائهم تحت سلطة القانون وضوابط الدستور المتفق عليه؟ العالم العربي، بحاجة إلى استنفار الوعي المجتمعي، وإلا ستبقى العربة بكل ألوانها المبهرة مجرد عربة تشبه عربات قصص الخيال ولا حصان.
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا