هل هناك كُفر أم هو التعبير بلغة مسموعة ومحسوسة رافضةٍ لتسلط الأوصياء باسم الله على عباده في أرضه؟ ولا يقتصر ذلك التسلط على الإسلام من خلال شيوخ طوائفه فقط، بل وجدت ذلك في كافة الأديان السماوية والمعتقدات الأرضية.

وجرني حديثٌ مع أحد الباحثين في مركز INSS الإسرائيلي حول الهوية الدينية والوطنية، إلى ضرورة تحييد تسلط الهويات الدينية أيديولوجياً كمدخل رئيس لبناء هوية الدولة الوطنية (ذلك من وجهة نظري الشخصية). وذلك لأن الدولة الوطنية حتى وإنْ كانت ذات غالبية عرقية أو دينية، فإنها ستعرّض مشروعها الوطني لأكثر من عنصر تهديد، كون الهويات الدينية بطبعها متحولة في سلوكها وإقصائية المنهج، مهما بدت متسامحة.

شرق أوسطياً، نحن لا نزال نحاول التصالح مع فرضية أن القيادات السياسية الشيعية في العراق، ولبنان واليمن ستنضج وتتحول لقوى وطنية غير «طائفية» وقادرة على إنتاج هويتها الوطنية خارج إطار هويتها الطائفية، إلا أنها غير قادرة على ذلك ولسبب بسيط جداً: هي لا تملك مشروعاً وطنياً. وهي من حيث المبدأ والمنهجية تتفق مع شقها الموازي سنياً (السلف الجهادي والإخوان)، أي وجوب تفكيك الجغرافيا السياسية الاجتماعية القائمة، وإعادة بناء جغرافيا على أسس طائفية. ويتطلب الشق الأول من المشروع إفشال (أو استدامة حالة الفشل) للجغرافيا الاجتماعية قبل السياسية، وذلك لترسيخ حالة الفشل في وجدان المواطن، والتمهيد لإنجاح مشروع الأمة (العراق/ لبنان/ السودان/ اليمن/ ليبيا).

ومثل تلك التحولات لا تقتصر على الحالة الإسلامية، بل تؤكد القرائن على حدوث مثلها في المسيحية (الكنيسة الأنغليكانية والصهيونية المسيحية، وموقفهما من الحرب في العراق وأن ذلك «تكليف من الله»، أو مواقفها من حالة عدم الاستقرار الاجتماعي عرقياً في الولايات المتحدة)، وكذلك هو التحول في حالة عدم التسامح الهندوسي مع مسلمي الهند (حيث باتت مقلقة سياسياً واجتماعياً وذات تأثير سلبي على علاقات الهند الدولية).

والحال مماثل في التيارات اليهودية المتعصبة دينياً، وخصوصاً التي تقع على أقصى اليمين الإسرائيلي اجتماعياً وسياسياً، وتمارس أقصى حالات «الإقصاء» ليس فقط للفلسطينيين وهويتهم وإنما لليهود المناهضين لرؤيتهم السياسية والاجتماعية إسرائيلياً، ومتهمة إياهم بخيانة مبادئ الصهيونية.

شرق أوسطياً، قدمت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية نموذجين ناجحين في مأسسة المؤسسة الدينية وأدواتها الثقافية، وأخرجتها من حيز «التطير» اجتماعياً وسياسياً، وأقصد بالتطير «اجتماعياً» هو انفلات عملية الإفتاء من عقالها العقلاني قبل التفسيري، واحتواء تجاوزاتها كافة، بما فيها إرادة الدولة (مساندة الدعوات للجهاد من منظور تلك التيارات/ تمويل الإرهاب/ تهديد السلم الاجتماعي).

ولم تلتفت الدولتان من منطلق مسؤوليتهما الوطنية لأي استثناءات على أسس طائفية. النموذج الإماراتي السعودي لم يقتصر على ذلك، بل امتد لـ«إعادة» هيكلة مفهوم التسامح من منطلقه الإنساني «مفهوماً»، لا الديني فقط من حيث الاجتهاد الفردي أو الجماعي، لذلك حققت برامج التحول الاجتماعي وتمكين الهوية الوطنية أقصى أهدافها المرحلية في الحدود الدنيا زمنياً.

الدولة الوطنية، لا العرقية أو الطائفية، هي النموذج الذي سيحقق للمنطقة وعموم شعوبها التمكين المتين والقادر على احتواء كافة مصادر التهديد لأمنها واستقرارها ونموها، وعلينا أن نتحلى بالشجاعة في مواجهة كافة الهويات الفرعية عندما تتجاوز أو تفترض تحصنها الاجتماعي دينياً.

* كاتب بحريني