أطلقت منظمة الصحة العالمية نهاية الأسبوع الماضي، تقريرها الخاص بوضع الصحة النفسية والعقلية على الصعيد العالمي (World Mental Health report)، وذلك بعد مرور عشرين عاماً على نشر منظمة الصحة العالمية تقريرها التاريخي الخاص بالصحة العقلية عام 2001، والذي حمل حينها عنوان (الصحة النفسية: مفهوم جديد وآمال جديدة)، وهو التقرير الذي لا تزال توصياته المقدمة آنذاك صالحة حتى يومنا هذا.

ومن أهم الحقائق التي حملها التقرير الأخير، حقيقة أنه في عام 2019 تعرض ما يقارب من مليار شخص لاضطرابات عقلية، بما في ذلك 14% من المراهقين، وهو ما يجعل الاضطرابات العقلية أحد أهم أسباب الإعاقة بين أفراد الجنس البشري.

وعلى صعيد الوفيات، تسبب الانتحار في وفاة واحدة من كل 100 من الوفيات البشرية، كما أن 58% من حالات الانتحار كانت بين أشخاص دون سن الخمسين. وبوجه عام، يلقى المصابون باضطرابات عقلية حتفهم بشكل مبكر، حيث ينخفض مؤمل أو متوسط العمر لهم بمقدار عشرة أو عشرين عاماً، مقارنة بباقي أفراد المجتمع، غالباً نتيجة أمراض بدنية يمكن الوقاية منها وتجنبها. حيث تفتقر الغالبية العظمى منهم لمستوى جيد من الرعاية الصحية، على صعيد إجراءات الوقاية وسبل العلاج، سواء لاضطراباتهم العقلية أو لاعتلالاتهم البدنية.

ومن المنظور العالمي، تتعدد وتتنوع العوامل التي تشكل خطراً على توازن وحيوية الصحة العقلية المجتمعية، مثل فقدان العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والحروب والصراعات المسلحة، والتنمر، والاعتداء الجنسي على الأطفال، والتغيرات المناخية، وطوارئ الصحة العامة، كما هو الحال زمن الأوبئة والجوائح. فعلى سبيل المثال، ارتفعت معدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق بنسبة 25% في السنة الأولى فقط من وباء كوفيد-19.

وربما كان من أهم الحقائق الغائبة عن فهم الكثيرين لطبيعة الأمراض العقلية، حقيقة أن مؤثرات أو محددات الصحة النفسية لا ترتبط فقط بالصفات والسمات الشخصية، مثل القدرة على إدارة الأفكار، والتحكم في المشاعر، وضبط السلوك، وسبل التفاعل مع الآخرين، بل تعتمد أيضاً محددات الصحة النفسية على عوامل اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وسياسية، وبيئية.

مثل مستوى المعيشة، وظروف العمل، والسياسات الصحية، والدعم الاجتماعي، وهي كلها محددات تؤثر بشكل واضح في احتمالات الإصابة بالاضطرابات العقلية، وفي مستوى الصحة النفسية.

ومما يزيد الموقف سوءاً لهؤلاء المرضى، وصمة العار التي يوصمون بها، والتمييز السلبي في العمل والسكن والعلاقات الاجتماعية، والانتهاكات المستمرة لحقوقهم الإنسانية، وهي الممارسات المنتشرة على نطاق واسع، ليس فقط من قبل أفراد المجتمع، بل أيضاً ضمن نطاق نظام الرعاية الصحية ذاته. وللأسف، نجد أن الفقراء والمستضعفين في غالبية دول العالم، هم الأكثر عرضة للاضطرابات النفسية والعقلية، وهم أيضاً الأقل حظاً وفرصة في الحصول على الرعاية الطبية اللازمة.

*كاتب متخصص في الشؤون العلمية.