وراء الاختراعات والاكتشافات والتنظير والاتقان في العلوم والآداب والفنون عقول العباقرة، فهذه الكلمة «العبقري» وجدت في لسان العرب عبر مكان اسمه عَبقَر، حيث كان قدماء العرب يعتقدون بأنه مكان تسكنهُ الجِنّ، ومن هنا، يطلق على الإنسان عبقرياً عبر كل عمل أو صنعة ذات اتقان أو وجود مَلًكة مبهرة.

وهذا الأمر اللغوي لا يختلف كثيراً عن الكلمة المرادفة بالإنجليزية Genius والتي أصلها في اللغة اللاتينية الروح أو إله الوصاية كما أنها تعني الجِنّ. قطعاً، كل أفراد المجتمع يعتبرون فاعلين في أوطانهم باختلاف مستويات التعليم والمعرفة والقدرات البدنية، وهذه الفاعلية مرتبطة بالمنظومة السياسية والاجتماعية.

أما مسألة البحث عن مكان يسكنهُ الكثير من العباقرة والمبدعين، ما زالت محلاً لتجاذب واختلاف العديد من العلماء في سبيل رسم طريق نحو الإبداع والذكاء. فأهم المعضلات في المسألة، أن قدرات وسلوك البشر معقدة عبر عوامل متداخلة ومختلفة مثل البيئة الثقافية والحراك الاجتماعي والوضع المادي والمعنوي والنظام السياسي والمعتقدات والأيديولوجيات وغيرها كالجينات.

على سبيل المثال، وجود نظام تعليمي ذو جودة عالية سيقود حتماً الكثير من الناس إلى أن يصبحوا أكثر ذكاءً، إلا إن الإنسان أكثر تعقيداً، فقد كشفت دراسات بأن الأشقاء يختلفون في الذكاء، على الرغم من البيئة الواحدة المشتركة، أي أن التفاعل مع البيئة التعليمية والسياسية يعتمد بدرجة معينة على الجينات غير المتحكم بها.

ويزداد الإنسان جدلاً في أحوالهِ، فالبيئة الاجتماعية المتماسكة تعتبر رحماً لطفل الذكاء، رغم ذلك، فالحرمان قد يقود إلى الإبداع، فالموسيقار العالمي الشهير بيتهوفن كان يتيم الأم، شقياً بوالدهِ المدمن للكحول، والعالم إسحاق نيوتن كان يتيماً أيضاً، ومع وجود الكثير من العباقرة والمبدعين والساسة الذين كانوا في وضع أسري سيئ، حاولت دراسات الربط بين الحرمان العاطفي والضعف الأسري وتكوين العبقرية.

هناك جدلية مهمة «كيف ومتى تكون ذكياً»؟، على سبيل المثال، هل من الذكاء أن تكون ناجحاً في الحياة الاجتماعية ومؤثراً في الآخرين، أو عبر القدرات المعرفية المنطقية، أو من خلال تقويم سلوكك وتطوير مهاراتك وتحقيق أهدافك، أو صناعة أشياء تخدم البشرية والطبيعة؟ لذا يمكننا الاستنتاج بأن التباين في مفهوم أو تعريف الذكاء أحد الأسباب الرئيسية في الخلاف حول المعايير القادرة على قياس الذكاء.

ومن الأهمية التأكيد بأن الذكاء يعتبر متغيراً عبر المؤثرات البيولوجية للإنسان والمتغيرات السياسية والتعليمية والاجتماعية والمادية، وهذا ما أثبتتهُ دراسة «النمل الأبيض» لأستاذ علم النفس «لويس تيرمان» في جامعة ستانفورد، حيث وجد صفوة الذكاء في أطفال محدودة عبر اختبارات متتالية، وأطلق عليهم النمل الأبيض معتقداً بأنهم سيصبحون نخبةً في الولايات المتحدة، وعندما كَبَرَ الأطفال صُدم بالنتيجة غير المتوقعة، فقد تغير الأطفال ولم يكونوا جميعاً ناجحين كما توقع. رغم ما عرضته المقالة من جدليات حول الذكاء، ما زال النظام التعليمي وتماسك الأسرة والمجتمع ووجود محفزات معنوية ومادية أهم العوامل في خلق أجيال أكثر إبداعاً وذكاءً.

* كاتب ومحلل سياسي