القراءة سلوك إنساني يبني وعي الإنسان القارئ ويُراكِم المعرفة في عقله، وينطوي على علاقة معقَّدة بين القارئ والنص والكاتب، تبدأ عند الكاتب وتنتهي عند القارئ، وتسهم كثيرًا في صناعة الوعي لدى الفرد، ومن ثَمّ بناء وعي المجتمع. وإن الحراك الذي يحدُث داخل إطار العلاقة بين القارئ والنص والكاتب يُحدّد على نحو كبير نوع العقل القارئ والباحث عن المعرفة، فهناك عقول مبدعة وأخرى مُتَّبِعة.

ويتعامل العقل المُتّبِع مع النص بناءً على قناعاته الشخصية وأحكامه المسبقة التي تستقر في يقينه، بمعنى أنه يملك قياسًا ثابتًا يقيس عليه النص، فإن كان النص يتماشى مع قناعاته وأفكاره، قَبِله إلى درجة الإيمان الأعمى بما جاء فيه، وهنا يكون للكاتب وتوجهاته الفكرية المتوافقة مع القارئ دور في رؤية القارئ للنص والإيمان به.

وقد يصل بعضهم إلى الإيمان المطلق بالنص من دون أن يسمح لعقله بمجرد التفكير في مدى صحته ودقته، ومدى علمية المادة المقروءة ومنطقيَّتها، ويبدو هذا القارئ من الخارج في مظهر المثقف، والحقيقة أنه مُكبّل بسلاسل الفكر الخرافي والإيمان المطلق باتّباع النصوص التي يقرؤها والمتوافقة مع قناعاته، كما أسلفت.

وهذا الصنف من القُراء يبتعد تمامًا عن الكتب والنصوص التي لا تتواءم مع فكره، ويخاف حتى أن يقترب منها، وقد يبتعد القارئ عن النص ويرفضه من دون تفكير إذا كانت لدى مُؤلِّفه توجهات فكرية تتعارض مع توجهاته هو.

ويظلّ هذا القارئ حبيس أفكار الآخرين، ويُذوّب نفسه فيهم، فلا يملك شخصية ثقافية خاصة به، وفي النهاية يكون كمَثَل الذاكرة التي تستعيد ما تقرأ لتُردّده عليك حرفيًّا من دون رأي شخصي واضح، وفي أحسن الحالات يكون رأيًا مشوّهًا وغير متناسق، لأنه اعتمد على فكرة «القص واللصق» من أفكار الآخرين وكتبهم.

أما العقل المبدع، فهو عقل نشأ على الفلسفة الناقدة في علاقته بالنصوص المقروءة، فقد تعلَّم كيف يطرح الأسئلة، وكيف يعيش مع النص، عن طريق طرح التساؤلات التي يقرؤها بين سطوره، ويعكف على البحث عن إجاباتها، ولا يهتمّ بتوجهات الكاتب، ولا بأيديولوجيته قَدْر اهتمامه بمدى صدق النص ومنطقه، فالنص عنده أهم من الكاتب، ولا يَسمح لعقله بأن يُسلِّم بما جاء في النص من دون قناعة، ويطرح القارئ المبدع الكثير من الأسئلة، التي تحتمل عددًا من الإجابات، وفي النهاية يستطيع أن يُكوّن رؤية خاصة به، ويطرح فكرًا جديدًا، فيحول القراءة من مجرد سلوك لمراكمة المعرفة إلى سلوك لخلقها.

وتحتاج صناعة المعرفة، والتحول إلى مجتمع منتِج لها، إلى بناء عقول قادرة على طرح الأسئلة، والبحث وراء الفكرة، ووضع التصورات المختلفة، ومحاولة استنبات فكر جديد من وراء القراءات التي تُقرَأ. يجب أن نزيد مساحة القراءة المبدعة والخلّاقة، فهي القراءة التي تبني حضارة راسخة، لأنها تعتمد أساسًا على عقول أبنائها وإبداعاتهم.

*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي.