الولايات المتحدة رفضت الاعتراف بأمرين في تاريخ علاقاتها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، أولهما، الاعتراف بفشل كل سيناريوهات «احتواء إيران» منذ 1979، رغم كل ما قدمته الولايات المتحدة من اعتراف بحق طهران بالتواجد المباشر في ما تعتبره «هي» عمقها الاستراتيجي. إما ثانيهما، فإن طهران هي المستفيد الأوحد سياسياً من كافة مسارات التفاوض حول ملفها النووي منذ أغسطس 2003، بل حققت طهران أقصى ما يمكن ان يحققه أي مسار دبلوماسي بين دولة من العالم الثالث والولايات المتحدة، وهي أكبر الأقطاب الثلاثة. فقد مثلت عملية التفاوض إعادة تأهيل للنظام السياسي في طهران بعد عُزلة تجاوزت العقدين.

أما داخليا، فإن طهران حافظت على التعريف بذاتها «السياسي» عبر استدامة «الجمهورية بحجم خصومها». الجولة الأخيرة من المحادثات غير المباشرة في الدوحة بين الولايات المتحدة وإيران عبر الوسيط الأوروبي، أكدت قدرة طهران على المناورة استراتيجياً، في حين سعت واشنطن لتحقيق مكاسب تكتيكية (تحقيق أي نجاح في أي ملف خارجي من منظور الرأي العام الأميركي مع تراكم المزيد من الإخفاقات الاقتصادية/ السياسية/ الاجتماعية/ التشريعية). طهران تملك ورقتين استراتيجيتين في ملفها النووي: أولها: أن المجتمع الدولي لن يدعم أي شكل من أشكال احتواءها من خلال عمل عسكري بإرادة أميركية، وذلك بعد كم المغامرات العسكرية الأميركية من 2001، وما استجلبته من حالة عدم استقرار باتت شبه مستدامة في جغرافيات سياسية متعددة حول العالم.

ثانيهما: الإبقاء على المفاوضات حول ملفها النووي، هو ضمانة تعميدهما الدولي، وكذلك ضمان استدامة استحقاقاتها الجيوسياسية، ناهيك عن تحول الملف من حيث الأولوية إلى المركز الأول شرق أوسطياً بالنسبة لكافة الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ 2003. الرئيس بايدن لن يملك الكثير ليقدمه لحلفاء الولايات المتحدة خلال جولته المرتقبة لكل من تل أبيب وجدة، فلا تقدم في الملف النووي الإيراني، وكذلك تراجع حظوظ حدوث اختراق نوعي في ملف السلام في الشرق الأوسط لعدم توفر الظروف الموضوعية المناسبة. وأهمها، طرفي النزاع (إسرائيل والسلطة الفلسطينية). فكليهما يمر بمرحلة هشة سياسياً، فإسرائيل مقبلة على انتخابات برلمانية في أكتوبر بعد حل الكنيست، وفلسطينيا، الأزمة مركبة، ولن يكون آخرها انتقال السلطة بعد محمود عباس. اما آخر تحديات الزيارة، هو قبول إدارته بواقع الشرق الأوسط الجديد بإرادة دوله بعد التوقيع على المواثيق الإبراهيمية. لذلك يتوجب على الولايات المتحدة قبول ذلك الواقع لا تحدي واقع مخرجاته.

تراجع الموثوقية في قدرة الولايات على قيادة العالم الحر، هو أمر يجب أن يُخضع لعملية إعادة تقييم أميركية قبل غيرها من حلفاء الولايات المتحدة، وللاستدلال على ذلك إليكم موقف ثلاث شخصيات سياسية أميركية حذرت من مغبة غياب رؤية استراتيجية حقيقية وما أنتجه ذلك الواقع من إخفاقات استراتيجية. تلك الشخصيات هي نعوم تشومسكي، وهنري كيسنجر وزبجنيو بريجينسكي، والغريب في الأمر توافقها رغم اختلاف انتماءاتها الحزبية. حيث حث الثلاثة على ضرورة أن تراجع الولايات المتحدة خطواتها السياسية باتجاه روسيا في عهد بوتين، لأن عدم احتساب ما يعتبره بوتين تهديداً لأمن روسيا القومي، واستفزازاً لمكانتها الدولية، سيقود مستقبلا لأزمات كبرى (الأزمة الأوكرانية دليل على ذلك). فأن كانت الولايات المتحدة ترفض الاستماع لمثل هؤلاء، فأنها في أزمة حقيقية.

* كاتب بحريني