خلصت العديد من الجهود البحثية الساعية لتفكيك «ما بعد الحداثة»، إلى أن حصر مفاهيمها لا يعد بالأمر الدقيق، إذ أن «ما بعد الحداثة» يقع في «المدرك»، الممتنع عن التقييد الدلالي، معروف النطاق أو البيئة التاريخية والاجتماعية والثقافية.

إن النتاج الذي جاءت به ما بعد البنيوية، والذي ينعت بـ«التفكيكية»، يمثل مفصلية حاسمة في التاريخ الإنساني، انبثقت من كم الوعي الوجودي لملامح «ما بعد الحداثة»، فجاءت بدايات استخدام ذلك المدلول لدى مايكل كولر (1876)، وشروحاته وتفكيك مدلوله لدى فيديريكو دي أونيس (1934)، لتمتد بعدها استخدامات هذا التركيب والإشارة لأبعاده. وقد حازت فترة «ما بعد الحداثة» على عناية واضحة من الفلاسفة الذين التفتوا لمستجدات تلك الحقبة من خلال الاتجاه نحو التفكيك الدقيق للنظم والاتجاهات الفكرية، وهجران الموروثات.

وقد تبين بشكل دقيق تأثرُ أولئك الفلاسفة بالتجربة الإنسانية القريبة من زمانهم، والملاصقة لبيئتهم، فاعتبر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن أبجديات الفكر المفضي لما بعد الحداثة تكون بإعلان انفصال الحداثة عن التراكم الديني الذي تنبثق من رحمه مكنونات القيم، وعقارب البوصلة الأخلاقية السلوكية.

ومن ذلك فإن ما بعد الحداثة تمثل اعترافاً بدعم الحاجة للتأطير القيمي للأفراد. وقد أدى هذا الاتجاه الفكري للوقوع في العدمية أو الهوة في طريق الإنسان الغربي الذي كان «يهرول» وصولاً للأفضل المنقطع عن ماضيه المؤلم. إن التأريخ لحالة ما بعد الحداثة يتطلب الملاحظة الدقيقة لآثار تلك المرحلة التي توزعت في كل حدب وصوب، فكان لها آثار واضحة في القانون والفلسفة وأنماط التربية والاقتصاد والإدارة السياسية.. إلخ.

وقد حاول إظهارَ انعكاس تلك الحالة ونتاجها الفكري الفيلسوفُ الفرنسي جان ليوتار الذي وصف «ما بعد الحداثة» باعتبارها «فورة» أو قفزاً تاماً من الاستناد على الوضعي بعد هجران الديني إلى المجهول. أما الفيلسوف إستر دياز، فرأى أن ما بعد الحداثة شكَّلَ نتاجاً مختلطاً خرج من صراع عالَم التكنولوجيا المعقدة والخطابات الموروثة القديمة، بطروحات مختلفة التجاذب والتقارب.

وفي حين يعتبر عنصر «الجدة» أحد المستلزمات المصاحبة للوجود البشري، فإن تلك الجدة المصاحبة للزمنية لا يمكن حصرها في قالب وتعميمها على كافة الأزمان، وهنا كان الدافع لبروز اختلافات في الطرح، فوصفت تارة تلك المرحلة بالفترة الحديثة، وتارة أخرى بالعصر الجديد، ومن هذا الفهم فقد اعتبر «كولر» أن ما لحق بعصر النهضة الأوروبية من أحداث يدخل في مساحة ما بعد الحداثة، وهو أقرب التعاريف التي مال لها كثير من الدارسين، لشموليتها، وعدم تفويتها شيء مما بعد الحداثة ذاتها أو «عصر التنوير» الذي جاء مع القرن الثامن عشر.

إن «ما بعد الحداثة» شكّل نقطة تحول في الإنجاز البشري، وولادةَ نماذج متنوعة من الأعمال مختلفة المجالات، بدأ الإنسان بالتعرف عليها وتطويرها، وذلك كالإنجازات الفنية والأدبية والسينمائية والصحافية، والتوسع في الأعمال التجارية وأساليبها، وإضافة قراءات نوعية لكل من الدين، ونماذج الثقافة، والقوانين، وصياغة المعطيات التاريخية من مختلف الزوايا. وقد شهد ذلك توسعاً واضحاً في الفترة بين أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. ولفهم ما هو أبعد من الحداثة، يمكن تسليط الضوء على ما قامت عليه من مبادئ بشكل مقرب من كونها تؤمن بالواقع الملموس الظاهر أمامها.

ومع ذلك فمهما اختلفت المعطيات الجديدة المحيطة بالإنسان فإنه يظل يحتفظ بـ«صندوق أسود» من الذكريات أو الموروثات التي تحوي عوالق تراثية، ومن هنا استحال استقلال التفكير فيما بعد الحداثة، وانعدمت احتمالية التعميم المعرفي على كافة الأوساط الإنسانية لاختلاف ظروفها، وازدادت «ندية» العلاقة بين الإنسان والطبيعة. وبذلك أنتج عالَم ما بعد الحداثة إنساناً أكثر ثقة بالمعطيات المادية، ونتائج التجارب القائمة على العقل أولاً.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة