في أيام ذي الحجة تهفو نفسي إلى مكة والطواف بالبيت العتيق، ولما كانت الظروف قد حالت بيني وبين زيارته هذا العام، فقد رحت أسترجع بعض ذكرياتي أثناء أداء المناسك، وأقرأ بعض ما كُتب في هذا الصدد، وكتاب «في منزل الوحي» للكاتب محمد حسين هيكل غني ويزيد معلومات القارئ حتماً، خصوصاً وأنه مكتوب بأسلوب رشيق وشائق يجمع بين التجربة الشخصية والتاريخ.

في الكتاب معلومات قيمة – من وجهة نظري – تدور في فلك تاريخ بناء الكعبة وعمارتها، وآثار مكة ومساجدها القديمة وقبورها، إلى جانب آثار المدينة المنورة، وعلى وجه الخصوص المسجد النبوي وتطوره المعماري عبر العصور. بلغة عذبة ورقيقة أفاض هيكل في هذا الكتاب بتصوير مشاعره وهو يؤدي مناسك الحج، وهو الذي لم يترك موقفاً من مواقف الحج التي عاشها إلا وتطرَّق إليه.

يَذكر هيكل أنه عندما عزم على أداء الفريضة اعتراه بعض الخوف من طبيعة الرحلة وصعوباتها المحتملة، وذلك يوم كان السفر بحراً وبراً، ويمتد ليالي وأيام، ومع ذلك حين ركب البحر، فقد شعر بهيبة الموقف. وصل هيكل مكة والليل قد انتصف، لكنه لم يرغب بتأجيل زيارة بيت الله الحرام حتى الصباح، ذلك أن الشوق استبد به لرؤية الكعبة، والوقوف أمامها خاشعاً متبتلاً.

وعن ذاك المشهد كتب (تبدَّت لي الكعبة قائمةً وسط المسجد فشُدَّ إليها بصري وطفر قلبي ولم يجد عنها منصرفاً، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي وتحركت قدماي نحوها وكلي خشوع ورهبة، مردداً اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً، اللهم أنت السلام ومنك السلام.

ارتسمت صورة البيت أمام بصيرة هيكل منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعدَه مثابة للناس وأمناً، وحين بلغ الكعبة اندمج طائفاً مع الحشود، وهو مأخوذ بجلال البيت العتيق، ممتلئ النفس خشوعاً، وقلبه يفيض إيماناً بالذي جمع في تلك البقعة الضيقة من الأرض كل جلال ومهابة.

هيكل في كتابه يستفيض بالكتابة عن مشاعره فيذكر: (وبينما دلفتُ إلى مقام إبراهيم أصلي فيه ركعتين، إذ وقع بصري على رجال تعلقوا بأستار الكعبة، وتشبثوا بها، وشخصت أبصارهم إلى السماء تستغفر الغفور الرحيم، وأقمتُ هنيهة أنظر إلى هؤلاء أسائل نفسي وأنا معجب بهم إذ لا يجدون ملجأً من الله إلا إليه، ولا يجدون ملجأً إليه خيراً من التعلُّق بأستار بيته المحرم، ولفت مسامعي اختلاف لهجات الحجيج، فمنهم ما تشوبه عجمية تدلُّ على أن العربية ليست لغته الأصيلة. ثم تحركت نحو حجر إسماعيل فإذا الناس من حولي لا يكاد أحدهم يترك مكانه حتى يحلّ غيره محله وكأنما نسوا أن الليل انقضى أكثر من ثلثيه وبقيت زمناً في مثل نسيانهم مأخوذاً بما حولي مقدساً إياه، ملقياً وراء ظهري كل ما يشغل الفكر ويسبب الهم من أمور الدنيا ومتاعها... وزادني موقفي توجهاً إلى الله، فدعوته راجياً أن يستجيب، واستلهمته الهدى إلى الحق والخير والفضل وتبتُ إليه من الآثام، وأشهدته على نفسي أنه هو رب التقوى ورب المغفرة).

و«في منزل الوحي» يواصل هيكل وصف رحلته حين وقف بعرفة، وبات بمنى، ورمى الجمرات، ثم سعي بين الصفا والمروة، قبل أن يتمم المناسك كلها التي انتهت بنحر أضحية، والتحلل من الإحرام. من بعدها توجَّه لزيارة المسجد النبوي حيث صلى فيه، ناجى ربه صادقاً، وحين عزم على العودة ودّع المدينة قائلاً: (ربّ هبْ لي من لدن رحمتك أن أعود فأزور هذه المدينة المباركة، أذكر فيها أشد الناس حبّاً لهدي الناس، وأشهدك على حبي إياه أكثر من حبي لنفسي).