جلست ذات يوم بين أفراد على مأدبة غداء، فأخذ أحدهم يجر الحديث نحو مفهوم العلمانية مع أصوات مضغ الطعام، وقد مثلت حديثهم عن العلمانية بصورٍ، كلما استطاع أحدهم بأن يعكس صورةً عن العلمانية على سطح ماء بحيرة، رشقها أحدهم بنقدٍ يمزقها، وما إن يعاود آخر منهم تجميع صورةً جديدة، إلا ويأتي مَنْ يرجمها بالغموض والنقص لتتمزق مرة أخرى.

وحيال هذا الحديث كنت قد دخلت مع نفسي بما أملك من معرفة في تركيب صورة للعلمانية، والتحديق بها في مرايا مقعرة وأخرى محدبة. العلمانية والعلوم، ما زالت العلمانية صنواً للحداثة منذ النهضة الغربية، التي اعتمدت على نهج عقلاني منطقي علمي يلغي التفسيرات الدينية في العلوم التطبيقية والاجتماعية، وذلك بعد عصور مظلمة متخلفة تحت السلطة الدينية.

وفي السياسة الدولية، استطاعت العلمانية تكوين الدولة القومية ذات السيادة، والتي أصبحت محوراً للعلاقات الدولية الحديثة والمعاصرة المعتمدة على قاعدة المصالح والاعتماد المتبادل. ورغم أن العلاقات الدولية توصف بأنها علمانية، فذلك لا يلغي دور الدين فيها، والأمثلة كثيرة ومنها، استخدام الولايات المتحدة والغرب المؤسسات الدينية العابرة للقومية-الكنيسة الكاثوليكية في الحرب الباردة ومحاربة الإلحاد الشيوعي، دور الإغاثة الدولية الإسلامية والمسيحية، خصائص وعقائد صناع القرار السياسي، الأحزاب السياسية المحافظة، المنظمات الدولية والإقليمية كالمؤتمر الإسلامي، ومنظومة البيت الإبراهيمي التي تسعى إلى وضع أخلاقيات ومبادئ دولية تتسم وتخدم التسامح والسلام.

إلى العلمانية الليبرالية الديموقراطية دون غيرها، فهي لم تستطع جعل الشعوب خالية من الانتماء العقدي والثقافي والعرقي تحت نظام سياسي وقانوني واحد، والسبب الرئيسي هو قلة التزاوج «التجانس الجنسي»، الذي يستطيع خلق أجيالاً جديدة متعددة الثقافات مرتبطةً في خلق لون بشرة وجغرافيا جسدية جديدتين.

ومع استحالة خلق أجيال جينية جديدة، أصبحنا نشهد بروزاً للفاشية «التجانس العرقي والثقافي» في أوروبا وغيرها. ومن الحيف على الليبرالية الداعمة لحقوق الإنسان والبيئة، محاربة البيولوجية الإنسانية وتماسك المجتمع، فقد دخلت المرأة سوق العمل بصورة مادية بحته، فجعلت شريحة كبيرة ومتزايدة لا ترغب في تكوين وتماسك الأسرة. وعِلَّة الليبرالية الغربية ارتباطها بالبراجماتية، التي تعتمد على قبول كل فكرة أو وسيلة تحقق المنفعة والمصلحة المادية وحتى المتعة دون أخذ أي معيار أخلاقي في ميزانها.

كما أن الليبرالية جعلت الكثير من الناس أمام سوق أرباب المال والشركات في إطار مادي براجماتي، فأخلَّت بالعقد الاجتماعي مُقلصةً من قوة ونفوذ وتدخل سلطة الدولة، التي من مهامها إدارة شؤون شعبها وتحقيق العدالة.

وهذه المعضلة، قادت بعض الجماعات السياسية إلى فرض هيبة الدولة أمام الليبرالية الرأسمالية الغربية، والتي أصحبت تعالج سياساتها في أخذ مسار اشتراكي اجتماعي كالنموذج الألماني. لئلا أحد من القراء يرشقني بنقدٍ حول الصور التي وضعتها للعلمانية، أوكد بأن كل إيديولوجية يدنو منها التطرف المادي والفكري والتصادم مع العدالة والطبيعة الإنسانية فإنها تفقد استمراريتها.

* كاتب ومحلل سياسي