التفاصيل التي نتابعها في نشرات الأخبار وبتسارع يتجاوز الإدراك أحياناً، ما هي إلا ملامح تحول هائل في كل منظومة العلاقات الدولية بالمجمل، زحزحة هائلة بحجم قارات ودول في تلك العلاقات التي كان لها أصولها وقواعدها واليوم نجدها قد اهتزت، وربما كان لا بد أن تهتز لإعادة ضبط المفاهيم من جديد. في الأخبار مثلاً، أن أوروبا بدأت تستورد حاجتها من الغاز «الضروري والحيوي لها» من الولايات المتحدة على شكل غاز مسال، فروسيا أوقفت ضخ غازها الذي كان شريان الحياة للقارة البيضاء.

أميركا لا تقدم الغاز ضمن مفاهيم العمل الخيري ولا على أسس مشروع مارشال جديد ينقذ أوروبا، بل هي صفقات تجارية خاضعة للعرض والطلب وقواعد السوق التي لا تعرف الرحمة بطبيعتها. حسناً، أين يقودنا ذلك في العلاقات الدولية؟

هناك دول في الطرف الآخر من أوروبا غير طرف الأطلسي، لديها طاقة وفيرة، ليس النفط وحسب، بل بدائل طاقة هائلة تجعلها في موقع قوة خارج مفاهيم العلاقات التقليدية التي سادت سابقاً، ونحن اليوم نعيش عالماً جديداً تحكمه ثورة التكنولوجيا التي غيرت موازين السيطرة كلها. تلك الغطرسة التي سادت وجعلت «الغرب المتفوق» سيداً على العالم، لم تعد مفاهيمها صالحة في عالم اليوم، فهناك حاجة ماسة الآن للتفكير من جديد في الندية بالعلاقات، وهذا لا حل له إلا بصيغ جديدة من التعاون ومشاريع التنمية التي لا تقوم إلا على التفاهمات المتساوية والعادلة.

في أزمة دولية تلف الكوكب كله، تتضمن مخاطر مجاعات وأزمة غذاء وغلاء معيشة لا يرحم أحداً، نجد أن المنظمات الدولية القائمة بعد الحرب العالمية لا مفاعيل لها ولا حول ولا قوة، هل لاحظ أحد أن الأمم المتحدة مثلاً، بكل مجلسها الأمني وسلطات حق النقض الفيتو قادرة على فعل شيء غير «إبداء القلق» في بيانات متتابعة لا تسمن «الكوكب» ولا تغنيه من مخاطر وشيكة تهدد البشر في أمنهم الغذائي والمعيشي؟

هي زحزحة عالمية لها تبعاتها التي قد تشكل انهيارات وكوارث وزلازل لن ينجو منها إلا المدركون لفكرة تجنب الكوارث بالتكافل والتعاون التنموي السريع، والسريع جداً. عالم جديد لم يعد ينفع فيه سيادة فكرة «التفوق الغربي»، فالمعرفة هي التي سادت. من هنا، أراقب بشيء من التفاؤل ذلك الشرق أوسط الذي بحكم جغرافيته يتوسط العالم، وهو يحاول الخروج من العاصفة العاتية بأقل الخسائر عبر لملمة تنموية مدروسة في مشاريع شراكة يوظف فيها قدراته لتحقيق الأمن الغذائي أولاً، ووضع أسس جديدة لتوفير الطاقة للجميع ضمن أسس عادلة، وترتيب سلاسل التزويد عبر منظومات ومنصات قطاع النقل والتوزيع.

هنالك قمم انعقدت في عالمنا الشرق أوسطي، وقمم سياسية عالمية سيتم عقدها، ولم تعد بروكسل كما واشنطن محجاً للجميع، بل صار السيد الغربي يحج إلى عواصمنا العربية بحثاً عن حلول لأزماته، والحكمة تقتضي أن يفهم الجميع هذه المرة أن عالمنا لم يعد يحتمل النزاعات الدموية، ولا الحروب. ربما آن الأوان لسماع صرخة جورباتشوف الشهيرة: عالم واحد أو لا عالم على الإطلاق.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.