انقضى الحج وانتهت مناسكه، وقضى الحجاج تفثهم وأتموا مشاعرهم بين جنبات البيت والحطيم ومنى وعرفات ومزدلفة والجمرات، وبلغ الهدي محله وبقي الأجر والمنفعة والذكريات. الحج خامس أركان الإسلام، ومكانته محل إجماعٍ من جميع المسلمين، وهو عبادةٌ كبرى ترفع الدرجات وتكفر الذنوب وتزكي النفوس، وهو كذلك سياحة وتجارة ومصالح وأخلاق، وقصره على معنى العبادة فيه إنقاصٌ لقيمته ودوره ومكانته.

السياحة في الحج نوعٌ من السياحة الدينية المفيدة اقتصادياً واجتماعياً، والتجارة في الحج عنصرٌ مهمٌ لأهل مكة والحجاز وللحجاج القادمين من أصقاع الأرض، ومع تزايد أعداد الحجيج وبذل الغالي والنفيس لجعله مريحاً وهادئاً وهانئاً فإن الأرقام تتحدث عن تصاعدٍ في هذه الأبعاد المهمة والتي قد لا يستحضرها البعض ويتفنّن بعض المؤدلجين المتطرفين في جعلها مثلبةً ومنقصةً مع أنها مذكورةٌ في القرآن الكريم نصاً (ليشهدوا منافع لهم) وعليها عمل المسلمين قديماً وحديثاً بشتى طبقاتهم من فقهاء وعلماء ونخبٍ وعامةٍ.

الحج تعارف وتعايش وتسامح، بين جميع المسلمين الذين ينتسبون لطوائف متباينة ومذاهب متعددةٍ ومدارس مختلفة، يتعلمون الأخلاق الرفيعة من صبر وأدبٍ وحسن قولٍ وتعاملٍ، وهو مجالٌ رحبٌ لتقديم الخير ومدّ يد العون للمحتاج ومساعدة الضعيف.

في الحج كباقي العبادات، أحكامٌ وأخلاقٌ وجمالٌ، ومشكلة كبرى في فهم الدين شكلت انحرافاً خطيراً في القديم والحديث، هي قصره على الأحكام فقط وتجاهل الأخلاق ونكران الجمال بينما يجد المتأمل في نصوص الدين أن الأخلاق والجمال عنصران مهمان وجليلان يجب نشرهما والحرص عليهما.

كان فقهاء الإسلام الكبار يدركون هذه الأبعاد مجتمعةً ويتناولونها في سياقاتها الطبيعية، أحكاماً وأخلاقاً وجمالاً، دون استحضارٍ لتطرفٍ شاذٍ أو غلوٍ شائن، ومن ذلك ما نقله الفقيه المعروف والمؤرخ البارز «ابن خلكان» قاضي القضاة في كتابه «وفيات الأعيان» عن بديع الزمان الهمذاني من قوله في إحدى رسائله عن أحدهم: «حضرته التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرم، لا مشعر الحرم، ومنى الضيف، لا منى الخيف، وقبلة الصلات، لا قبلة الصلاة» وهذا من أجمل النثر وبديع اللغة في الكتابة والتعبير.

على طول التاريخ وعرض الجغرافيا سعت دولٌ وتياراتٌ وطوائف ومذاهب لتسييس الحج وقد كانت فرحة المسلمين عارمةً بتأمين الحج وتسهيل أدائه وخدمة حجاجه منذ قيام الدولة السعودية الحديثة، والتاريخ حاضرٌ والأخبار منشورةٌ، وبقيت «الجماعات المسيّسة» سنياً وشيعياً تسعى على الدوام لاستغلال الحج لمآرب تضرّ بالحجاج وبالمسلمين، وأوضح الأمثلة ما كانت تصنعه «جماعة الإخوان المسلمين» في الحج من اجتماعاتٍ وتخطيطٍ ومكرٍ بالدول العربية والإسلامية وما صنعته تنظيمات «القاعدة» و«داعش» من عملياتٍ وتفجيراتٍ وما صنعته جماعات الإسلام السياسي الشيعية على مدى سنواتٍ طويلةٍ من تخريبٍ ودمارٍ وترويعٍ للحجيج في عملياتٍ وتفجيراتٍ معروفة.

«تدويل الحج» كانت قضية أثارها البعض في مراحل تاريخية لأغراضٍ سياسيةٍ واقتصادية وانتهت وتلاشت، ولكن قضية «تسيس الحج» ما زالت قائمة وما زالت نفس الجماعات الدينية المسيسة تثير عبر خطاباتها وفتاواها شيئاً من الجدل تفتش له كل عامٍ عن عذرٍ أو مدخلٍ لبث سمومها وأفكارها، وهي تفشل، ولكنها لا تيأس، واليقظة تجاه مثل تلك الجماعات ورموزها ومصدري الفتاوى منها واجبةٌ مع الاستمرار في التركيز على المعاني الكبرى والشاملة للحج وخدمة الحجيج.

أخيراً، فالجهود الجبّارة المبذولة في تطوير الحج والرؤى المستقبلية التي ترسم والبناء والتعمير في كافة المجالات تحتاج جهداً موازياً يواجه مثل تلك الخطابات وينشر ثقافة التعارف والتعايش والتسامح ليعود الحج جامعاً للمسلمين و«ليشهدوا منافع لهم».

* كاتب سعودي