في تونس بدأ الجدل السياسي القانوني حول مشروع الدستور الجديد المعروض على الاستفتاء الشعبي يوم 25 يوليو الجاري، من أجل إخراج البلاد من مأزق حاد عرفته منذ بدايات تجارب الانتقال السياسي بعد أحداث 2011.

وفي السودان، يشكل موضوع البناء الدستوري أحد أهم بنود أجندة الصدام القائم بين المجلس العسكري الحاكم والقوى المدنية الاحتجاجية التي تطالب بإخراج الجيش من مركز القرار والسلطة. وفي ليبيا حالة مماثلة، تبرز في صراع الشرعية بين الحكومة التي تمخضت عن برلمان طبرق المنتخب وحكومة «الوحدة الوطنية» المنتهيةُ ولايتُها، في الوقت الذي ما يزال فيه الحوار قائماً حول الضوابط الدستورية للاستحقاقات القادمة.

وفي العراق ولبنان، لا يبدو أن البنيات الدستورية التي كرَّست تقاسمَ السلطة بين الطوائف والقوميات قادرة على توليد حالة سياسية مستقرة وعادية كما يظهر من مصاعب تشكيل الحكومات في البلدين بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة. هل يمكن إذن تلخيص الأزمات السياسية العربية في مطلب التأسيس الدستوري المتعثر؟

ليس الهوس بالدستور بالأمر الجديد في الثقافة السياسية العربية، ففي كثير من الدول ارتبطت المطالب الدستورية بحركية التحرر الوطني وبناء الدولة، وفي أحيان كثيرة تطورت الهياكلُ الدستوريةُ مع مسار الحقل السياسي وأزماته.

وإذا كانت المرجعيات الدستورية عادة ما تتركز في البلدان ذات التقاليد الليبرالية العريقة على مدونة الحقوق الفردية والمدنية وطبيعة النظام السياسي، فإنها في البلدان ذات الأوضاع الانتقالية الهشة تتمحور في الغالب حول إشكالية الهوية المجتمعية في أبعادها القومية والدينية والطائفية.

في مثل هذه البلدان لا يمكن تأسيس العقد السياسي الجماعي على محض قيم ومعايير المواطنة المتساوية التي هي أساس منظومة العدالة في المجتمعات الفردية التعددية، وإنما على ضوابط ومتطلبات الاعتراف التي تتعلق بها التركيبة الهوياتية للمجتمع.

لقد دخلت مسألة الاعتراف إلى الفكر السياسي في السنوات الأخيرة، بعد أن شكَّلت في السابق موضوعاً ميتافيزيقياً أخلاقياً في فلسفة هيغل (دوائر الاعتراف في تجارب الحب والقانون والأخلاق)، فأخذت مكانَها في الجدل النظري والعملي المعقَّد حول معضلة العدالة التي تُفهم عادة بالمعنى التوزيعي للحقوق وللمزايا المادية (نظرية جون رولز الشهيرة). في المجتمعات الليبرالية المتعددة ثقافياً (المجتمعات الأميركية الشمالية على الأخص)، يبدو أن قيم وقوانين المواطنة قد لا تكون عادلةً في إقصائها للهويات الخصوصية والأقليات المجموعاتية الضيقة، من منطلق الحرية السلبية التي تنظر إلى الأفراد كذرات معزولة عن سياقاتها الثقافية والمعنوية.

فإذا كان الإشكال الأكبر الذي طُرح على النظرية الليبرالية الكلاسيكية (هوبز وسبينوزا وكانط) هو الدفاع عن الحرية الفردية الشخصية في مواجهة سلطة المجموعة والمؤسسة، فإن الإشكال انتقل في السنوات الأخيرة إلى حماية حقوق المجموعات الأصلية أو الاختيارية من القولبة القانونية المجردة التي لا تعترف إلا بذوات خصوصية معزولة.

لقد نفذت هذه التصورات إلى الساحات الانتقالية من منظور نقدي لليبرالية الفردية (منظومة الحقوق والمواطنة) باعتبار كونها لا تتلاءم مع مجتمعات متنوعة التركيبة القومية أو الدينية وتفتقر إلى سقف إجماع وطني حول معايير إجرائية محضة للعدالة يُعتقَد خطأً أنها كافيةٌ لتحقيق مطلب المساواة والإنصاف بين كل مواطنيها.

وبدلاً من الاكتفاء بالنص على حقوق المواطَنَة المتساوية، تنزع الدساتير في هذه الساحات إلى تكريس الاعتراف بالهويات الجماعية وتمثيلها في نظام المشاركة السياسي، ولو بانتهاك القاعدة المنطقية الرئيسية لليبرالية التي هي حياد المجال العمومي إزاء أي مواقف أو انتماءات معيارية أو معنوية.

في بعض البلدان يلجأ إلى المقومات الثقافية أو الدينية كقاعدة للإجماع الوطني للتعويض عن ضعف أو فاعلية الأساس المدني للدولة (الانتماء الإسلامي أو الرابطة القومية في العديد من البلدان العربية)، وفي بلدان أخرى يتحول النظام السياسي نفسه إلى معادلة توازن تمثيلي بين المجموعات المتميزة ولو على حساب اعتبارات الوحدة الوطنية أو مدنية الدولة وفكرة المواطنة الجامعة.

ما نخلص إليه هو أن الحوار الدستوري العربي الراهن لا بد أن يتجنب مأزقين بارزين: حصر مفهوم المواطَنة في مدونة الحقوق المجردة دون تجسيد إيجابي وعملي لهذه الحقوق في مكاسب ونظم ملموسة، وتكريس استبدادية المجموعات بديلاً عن سلطوية الدولة وهيمنتها المطلقة.

وفي الحالتين، تُنتَهَك قيم الليبرالية، إما من منظور صوري مثالي بمنأى عن الوسائط الاجتماعية الفاعلة، أو من منظور ثقافي مناوئ لمعايير الإرادة الفردية الحرة التي هي مبدأ الليبرالية نفسها.

*أكاديمي موريتاني