يَدعونِي النجاحُ الاستثنائيُّ للمملكة العربية السعودية في إدارة حج هذا العام أيضاً، أن استعير عبارةَ «المرحلة الملكية» من الكتاب خالد صالح المنيف الذي يصف بها مرحلةَ النضج في حياة الفرد البشري. ويتساوق ذلك مع إعلان الأمير خالد الفيصل، مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة رئيس لجنة الحج المركزية، نجاحَ حج هذا العام 1443، وذلك بقوله: يسعدني أن أعلن نجاح خطط هذا العام على الأصعدة كافة، الأمنية والخدمية والصحية، دون تسجيل حوادث أو أمراض وبائية بين ضيوف الرحمن.

وقد تميز موسم الحج لهذا العام بتوظيف السعودية خدمات الذكاء الاصطناعي، سواء في مجال التوعية، أو توفير كامل الطاقات الآلية والبشرية لخدمة الحجيج، إضافة لمنظومة خدمية وأمنية وصحية وتقنية متكاملة.. مما أبرز حرصَ قيادة وحكومة المملكة على وضع راحة الحاج وسلامته على رأس الأولويات، ومن ثم فقد بذلت في ذلك السبيل كلَّ ما تتطلّبه استضافة مليون حاج. ومع كل هذه الجهود الجبارة، التي بذلتها السعودية وهي تقوم بتسخير كل قواها المدنية والتطوعية من طلاب وقوى أمنية وجيش، إلى جانب استخدام القوى الناعمة.. لخدمة ضيوف الرحمن.. نرى ونسمع دولاً مغرضةً تلمز وتسلق بألسنة حدادٍ أشحةٍ على الخير، وتهرف بما لا تعرف، سادرةً في غوايتها، جاهلةً بمعنى آيات الحج وغير مدركة لعِظم أمانة إدارته.. فمَن جادل من أجل كسر هذه الأمانة فهو جاهل بأوامر السماء، هدفه أن يزيد في إضلال أصحاب الأهواء والمغرضين. إن أولئك يجهلون أن تكفُّل المملكة العربية السعودية بسدانة البيت الحرام وإدارة الحجيج، أمر عززته السماء وفق الآية الكريمة «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» (الآية 58 من سورة النساء).

وقد نزلت هذه الآية لما دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ المكرمةَ عام الفتح، وأراد أن يدخل الكعبةَ، وكان مفتاحها بيد سادنها عثمان بن طلحة الحجبي (من المشركين)، والذي رفض تسليمَ المفتاح، فأخذه منه المسلمون عنوةً، وفتحوا بابها فدخل عليه الصلاة والسلام الكعبةَ، ثم خرج، فنزلت هذه الآية الكريمة، تدعوه لإعادة الأمانة لصاحبها، رغم أنه رجل مشرك، فأعاد المسلمون مفتاحَ الكعبة إليه فوراً، فما كان منه إلا أن قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله»، وما زال مفتاح الكعبة متوارثاً في أسرته إلى هذه الساعة.

ويستنبط من هذه الواقعة وما نزل فيها من آيات، تقنين قوام المملكة على إدارة الحج، إذ لم يسبق أن نازعها أحد على هذه الشرعية. وتقابلنا صورةٌ أخرى من صور التآخي في القدس الشريف، بكنيسة القيامة، وهي من أعرق الكنائس في المسيحية، وتحمل أمانةَ مفتاحها وختمَ القبر المقدس فيها عائلةٌ مسلمةٌ تعود بنسبها الشريف إلى بني هاشم، وقد ظلت تتوارث القيامَ بأمانة مفاتيح الكنيسة منذ أن تسلمتها من صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير القدس من أيدي الصليبيين عام 1187، وذلك في تقليد متوارث منذ مئات السنين. ولم يحدث أن دعا طرفٌ مسيحي لأخذ أمانة مفتاح الكنيسة من هذه العائلة المسلمة.

*سفير سابق