لم يعرف العالَم في أية مرحلة سابقة مثل الاهتمام الذي حظي به العلم والعلماء خلال فترة تفشي فيروس كورونا وانتشار الجائحة في أنحاء العالَم. كانت الأنظار موجهةً صوبَ العلماء، سواء مَن عملوا على ابتكار لقاحات مضادة للفيروس، أو مَن أجروا دراسات لسبر أغواره والإلمام بجوانبه المختلفة التي كانت شديدة الغموض في البداية، سعياً إلى تطوير أدوية لعلاج المصابين به.

لكن المهم أن علماء وأطباء في كثير من البلدان شاركوا في صنع السياسات المتعلقة بمواجهة انتشار الفيروس، وكانت كلمتهم مسموعةً بشأن ما ينبغي عمله من وقت لآخر. وشملت مشاركتُهم الفاعلةُ تلك قراراتٍ مؤثرةً في السياسات العامة في مجملها، وليس فقط في السياسات الصحية التي تداخلت مع سياسات أخرى، ومع قضايا المجتمع بوجه عام في فترةٍ تغيَّرَ فيها كثيرٌ من أنماط الحياة المعتادة.

ومن الطبيعي أن يتراجع هذا الاهتمام بدور العلم والعلماء مع انحسار الجائحة بعد ازدياد معدلات التلقيح ضده في معظم البلدان بدرجات متفاوتة، والضعف الذي ألم بالنسخ الحالية من الفيروس. وعادت السياسات العامة وعمليات صنع القرار إلى طبيعتها في الظروف العادية، ونقص دور العلماء بشأن تحديد ما ينبغي القيام به فيما يتعلق بالتعامل مع الفيروس الذي قلَّ خطرُه، لكنه مازال قادراً على الانتشار وإصابة أعداد متفاوتة من بلدٍ إلى آخر. وهذا أمرٌ مفهومٌ ينسجمُ مع طبائع الأمور. لكن الفترة التي تنامى فيها دورُ العلماء والأطباء إلى مستوى غير مسبوق قبلها أظهرت أهميةَ استمراره بدرجة أو بأخرى، وفي شكل أو آخر، في ظل توقع جوائح جديدة حيوانية المنشأ أيضاً.

وربما لا يكون خطر فيروس جُدري القرود كبيراً إلى مدى يُنذر بانتشار وبائي، وإن كانت منظمة الصحة العالمية تتأهبُ لهذا الاحتمال بعد أن استوعبت فيما يبدو درسَ التأخر في إعلان أن فيروس كورونا تحولَ إلى وباء ثم جائحة. كما أن خبرةَ العقدين الماضيين، منذ ظهور فيروس سارس كتهديد شبه عالمي في عام 2003، تدفع إلى الحفاظ على مشاركة العلماء في صنع السياسات العامة.

فقد انتشرت في هذين العقدين فيروسات مثل إيبولا وإنفلونزا الطيور وغيرها، وتَوسَّع نطاقُ فيروس الإيدز الأسبق منها، وصولا إلى كورونا ثم جُدري القرود، رغم أن خطرَها لم يكن متساوياً. ولهذا صار ضرورياً العملُ من أجل توفير مقومات تجنّب فيروسات خطيرة جديدة، والاستعداد للتعامل مع أي منها حالَ ظهوره بشكل فوري، وهو ما يتطلبُ الحفاظَ على علاقة وثيقة بين العلم والسياسات العامة الصحية وما يرتبط بها من سياسات أخرى، ومواصلة التعاون بين الحكومات والعلماء المتخصصين في مكافحة الأوبئة للبناء على ما تم إنجازه خلال فترة الجائحة.

لقد أثبتَ العِلمُ جدارتَه في فترة بالغة الحرج، وأصبح من الضروري أن يتنامى الاعتمادُ عليه في إطار ترتيبات تُحققُ شراكةً مستمرةً مع صانعي السياسات العامة في دول العالَم.

*مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية