كم مِن فنانٍ كان يعرض لوحاته على رصيف الطريق، ولم يحصل منها قوتَ يومه، وإذا بعد زمنٍ تتداول في المعارض والمَتاحِف، لتُجنى منها الثروات، وتكون سبباً لمعاش الأجيال. فموناليزا، التي رسمها في عصر النَّهضة دافنشي(1519) يقف أمامها يومياً الآلاف، في مُتحَف اللّوفر بباريس، وتكون سبباً لجذب النّاس، ناهيك عن لوحته الشهيرة «العشاء الأخير»، التي لا تخلو منها كنيسة ولا بيت مسيحي، مِن الغرب والشَّرق، كذلك أعمال الفنان، في عصر النَّهضة أيضاً، أنكلو(1564)، سبباً لفتح مَتاحِف، والكثيرون ممِن يزورون الفاتيكان شغفاً بأعماله هناك.

ما تزال لوحات بيكاسو(1973) سبباً لفتح المَتاحِف وتشغيل العاملين في طباعتها وبيعها. بمعنى أنَّ المذكورين مِن الفنانين، وكذلك أصحاب الأعمال المعماريّة الفنية، كبرج بيزا وبرج إيفل، على سبيل المثال، أصبحت سبباً لإنعاش اقتصاد المكان.

غدت الآثار العراقيَّة والمصريّة القديمة مصدراً مهماً مِن ثروات البلدان، بينما الفتاوى قدمتها أصناماً وأوثاناً، حتى ذُبح عالم الآثار خالد الأسعد(2015)، الذي حاول حماية آثار تدمر، وكانت المدينة منتعشة بوجودها، وما مورس بآثار الموصل كان فضيحة تاريحيَّة. بينما تقف الطوابير أمام المَتاحِف لرؤية «الثيران المجنحة»، و«بوابة عشتار»، والتي كانت وما زالت تدر الثّروات بلا انقطاع.

توقف فن الرّسم والنَّحت بمنطقتنا، فلم يظهر لدينا مَن نحت تمثال كوديا ولا أسد بابل، أما الرسم قبل القرن العشرين فيكاد يكون معدوماً، إذا استثنينا رسومات أو منمنمات يحيى بن محمود الواسطي(السَّابع الهجري)، عملها على مقامات الحريري(516هج)، والتي ما زالت تتداول أغلفةً للكتب، ولتزيين القاعات والمنازل. ارتبطت ندرة الرَّسامين بمنطقتنا بالموقف الدِّيني مِن التَّصوير.

غير أنَّ كُتاباً كباراً، مؤلفي التُّراث العربيّ الإسلاميّ، عاشوا الفاقة، ومارسوا أعمالاً غير مناسبة لمكانتهم الثّقافيَّة، لكنَّ كتبهم اليوم تُشغل دور النّشر ومعارض الكتب، وكم ثروات جنيت منها، ككتب التَّوحيديّ(ت: 414هج). كان نساخاً عند الوزراء، فكتب ضدهم «أخلاق الوزيرين»، ابن عباد(385هج)، وابن العميد(366هج).

على الرَّغم مِن أنَّ التَّوحيديّ قد حرق كتبه(الحَموي، معجم الأدباء)، لعدم الاهتمام بها، إلا أنّها وصلتنا، وساهمت بتنشيط الاقتصاد، عاش منها الباحثون والطَّباعون والوراقون، وما زالت معاشاً، مع ما قيل: «زنادقة الإسلام ثلاثة ابن الرَّاوندي وأبو حيان التَّوحيدي وأبو العلاء المعري»(الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء). كذلك الحال بالنّسبة للسَّهروردي(قُتل: 586هج)، وما زال يُسمَّى بالمقتول تمييزاً عن سهرورديين، كان قتله بمحضر كتبه الفقهاء فضيحةً تاريخيَّةً أيضاً، ولكم حساب مردود كتبه في اقتصاد اليوم. أتينا بالتَّوحيديّ والسَّهروديّ مثالاً، وإلا غيرهما ممِن اُضطهدوا بينما يُنشط إبداعهم الاقتصاد لا يعدون.

أصبح إبداع الأولين ثروةً للشُّعوب، عمارةً ولوحةً فنيَّةً، وسمفونيةً، وديواناً، الكثير مِن أصحابها عاشوا مغضوباً عليهم مِن قِبل الكهنة، بينهم المصلوب والمحروق، مع أنَّ أعمالهم تساهم في معاش المكفرين أنفسهم. ظل المبدعون يشكلون عصور النَّهضات، ومَن ساهم في ثقافة القرن 10م/4هج، ما زلنا نستجير بأعماله في يومنا هذا.

ظل هؤلاء أحياءً بأعمالهم، وغياب أحدهم خسارةٌ فادحةٌ، وهذا ما عبر عنه ابن المقفع(142هج)، أو ما نُسب إليه، عندما واجه أمير البصرة، قُبيل قَتله حرقاً، بينما أمست أعماله معاشاً للمتأخرين: «والله إنك لتقتلني فيُقتلُ بقتلي ألفُ نفسٍ، ولو قتلوا مثلك مائةً ما وفوا بواحدٍ» (الصَّفدي، الوافي بالوفيات).

  * كاتب عراقي