كانت كلمة «العولمة» هي نجم المصطلحات السياسية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فقلما كنّا نجد كتاباً سياسياً أو بحثاً يتناول العلاقات بين الدول في هذه الفترة، يخلوان من الإشارة إلى «العولمة» بشكل أو بآخر.

حتى الإعلام والاقتصاد دخلا على الخط. فهناك الإعلام العابر للحدود الذي صار يضع في اعتباره حاجات «المواطن العالمي» ورغباته، وهناك الاقتصاد الذي بنى «سلاسل الإمداد» التابعة له على أسس العولمة الجديدة، ولهذا نشأت منظمة التجارة العالمية في منتصف التسعينيات بقوانينها التجارية التي تسلب أحياناً – وبالمعنى الحرفي للكلمة – استقلال وسيادة بعض الدول وتمزق حدودها عن سابق قصد.

كانت جملة «العالم أصبح قرية صغيرة» جزءاً يومياً ثابتاً من «مسموعاتنا»، لدرجة أننا كنا نتوقع أن تتحول مناطق العالم ذات المصالح المشتركة إلى نسخ متفرقة من الاتحاد الأوروبي: دولة كبيرة بقوانين جديدة وبلا جنسية محددة تظلل تحتها عدة دول ذات ألوان جوازات مختلفة.

كنا نظن أن العولمة ستلتهم كل شيء، بدءاً بهوياتنا الثقافية وانتهاء بلهجاتنا المحلية. كانت الأمور تسير على هذا المنوال حتى جاء فيروس كورونا، فقلب العالم رأساً على عقب، وأصبحت كل دولة من دول العالم تدور حول مركز عاصمتها، وتقفل حدودها خوفاً من دخول الفيروس، وتسعى بكل الطرق إلى تأمين غذائها وحاجاتها اليومية من مواردها الطبيعية. عاد مفهوم الدولة الوطنية المستقلة من الباب فهربت العولمة من الشباك.

وظل الوضع قائماً لعدة أشهر حتى بدأت الدول شيئاً فشيئاً تستعيد عافيتها وتستعيد في نفس الوقت خطوط التواصل الدولية فيما بينها. عادت العولمة بنصف خطوة من الباب، لكن الدولة الوطنية لم تقفز هذه المرة من الشباك، وإنما ظلت «على حذر وقلق كأن الريح تحتها» كما يقول أبو الطيب المتنبي.

وقبل أن تفرد العولمة عضلاتها من جديد، اندلعت المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، فتأثرت سلاسل الإمداد العالمية من جديد وأصبح التفكير في «إعادة الاقتصاد الوطني إلى الواجهة وعزله عن التأثيرات العالمية» الشغل الشاغل لكل دول العالم. كنت قد كتبت قبل أشهر عن أن المستقبل ربما يكشف عن اختفاء «دولة الجغرافيا» بشكلها الحالي وظهور «دولة الكيانات المتشابهة» بدلاً عنها.

أي أن العالم بعد مائة سنة أو أكثر أو أقل ربما سيشهد دولاً تقوم على اهتمامات مشتركة من غير شرط توفر «الإقليم»!، كأن تكون هناك دولة الفنانين ودولة الرياضيين..وهكذا. ولكن حتى ذلك اليوم أظن أنه أصبح لزاماً على دول الخليج أن تستحدث في منظوماتها الحكومية هيئات تُعنى بالأمن الغذائي، تتولى مسؤوليات رسم الاستراتيجيات المتعلقة بهذا الجانب الحيوي المهم جداً ووضعها موضع التنفيذ.

أظن أن العمل ضمن منظومة سلاسل الإمداد العالمية مسألة مهمة لنمو الاقتصادات الخليجية وتطورها، لكن ذلك لا يمنع أن يكون هناك عمل بالتوازي على تأمين المستقبل القريب في حال اندلعت أزمة عالمية عطلت حركة الاقتصاد الدولي لسنوات طويلة. هيئة أمن غذائي لكل دولة أو هيئة أمن غذائي موحدة للدول الست، هكذا نطمئن لمستقبلنا.

* كاتب سعودي