لم يكن مطلوباً إلا التنسيق، ولو بالحد الأدنى، لندرك في مشرقنا العربي قدرتَنا الجماعيةَ على التأثير في العلاقات الدولية. قمة جدة الأخيرة، وما قبلها، وبالتأكيد ما بعدها المستمر، كانت لحظة تجلي تلك القدرة الهادئة والمدروسة والمشغولة بعقل رصين معني بالمصالح.

وقد كانت بكل ما قبلها وما فيها وما بعدها أشبه بدرس بليغ في إعادة التموضع ضمن منظومة علاقات دولية وإقليمية جديدة بدأت بالتبلور النهائي وقد بدأت منذ سنوات، وهي منظومة ضرورية وحتمية بعد استكمال ثورة تكنولوجيا المعلومات، والتي صارت حيوية بمعنى حقيقي بعد آثار جائحة كورونا التي وضعت العالَمَ أمام خيار وحيد للاستمرار، وهو خيار «التعاون» وسقوط خيار الهيمنة والسيطرة الأحادية.

وفي ذلك تغيرت مفاهيم القوة التي انتقلت من مربع العضلات العسكرية إلى مربع العلم والمعرفة والتشاركية. شخصياً، لا تلفتني استعراضات القوة المدججة بالكثير من التصريحات النارية التي لم تعد تصلح إلا كعناوين إثارة وتشويق في مانشيتات الصحف، والملفت عندي دوماً هو تلك القوى التي تعمل بهدوء وصمت وعقل بارد، لتشكيل رؤية إنسانية جديدة بدون جعجعة لكن مع كثير من الطحن اللازم والضروري.

دولة الإمارات العربية المتحدة على رأس هذه القوى الإقليمية التي تعمل بهدوء ولديها إدراك مبكر ووعي مسبق بضرورة تشكيل منظومة علاقات جديدة، لا في المنطقة وحسب، بل في العالم كله، قائمةً على التعاون والتنمية والتشاركية المبنية على أسس عملية ومعرفية.

ومن هنا كانت ريادة الإمارات قبل قمة جدة بقليل باتفاقية ثلاثية مع مصر والأردن لتحقيق غايات واضحة ومحددة المحاور تمثلت في الأمن الغذائي (الزراعة تحديداً) والصناعات الدوائية والمعززات الصناعية (الأسمدة) والتعدين.

وكان توظيف واستثمار الثروة في تعظيم الموارد لتلبية الحاجات الإنسانية عنواناً هادئاً اعتمدته الإمارات منذ سنوات، وليس قراراً مرتجلا أفرزته الحالة الآنية. والأبعاد الخاصة بهذا النهج تجاوزت الإقليم إلى العالَم كله، فالاتفاقية المشار إليها تستهدف سوقاً بحجم قارة، وأعني أوروبا.

وبريادة إماراتية وشراكة وازنة مع مصر والأردن، يمكن القول بثقة إن بعضاً من الحلول اللازمة لأزمات أوروبا صار ممكناً، وبإرادة عربية لا تبحث عن استعراضات بقدر ما تبحث عن رؤية تنموية على مستوى إنساني شامل ووفق أسس تكاملية. إنها رؤية حصيفة ووصفة وحيدة لاتقاء الكوارث وتَجنُّب تداعياتها.مما سمعته في الإمارات قبل عام، أن سياسة الدولة تحاول تحقيق ما يراه الكثيرون مستحيلا، وذلك بالوصول إلى حالة تصفير الأزمات والخلافات.

وقتها شككت بيني وبين نفسي في إمكانية حدوث ذلك، لكني أجدني اليوم أراقب بتأمل وإعجاب إمكانية حدوث ذلك، لأن المنهجية ليست خطابيةً إنشائيةً ولا للاستهلاك الإعلامي، بل هي تخطيط مدروس قائم على توليد أفكار ومشاريع استثمارية تبحث عن حلول لا عن استعراضات.

وبثقة الخبير في عالم الأعمال توظف الإمارات إمكاناتها المالية لخدمة تلك الرؤية التكاملية، وبدون مناكفات نالت قيادتَها الرياديةَ لمشاريع تنموية في الإقليم، مع رؤية استشرافية للعالَم كلِّه. التغييراتُ الإقليميةُ صارت تأخذ شكلَها النهائي، والعداواتُ بين الدول قد تصبح حالةً متنحيةً غابرةً، والخلافاتُ قد تتحول إلى محفِّز للتنافسية التي قد تتقاطع طرقُها في تشاركية مبنية على رؤية مصالح متشابكة، والإمارات أثبتت أنها الأكثر مرونةً ومهارة في التحولات التي استعصت على كثيرين، ومنهم قوى عظمى.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا