مع استمرار الحرب الأوكرانية الجارية منذ خمسة شهور، لا يبدو أي حل للنزاع في الأفق القريب. بل إن المعادلة الاستراتيجية في المنطقة تتمنع على أي تسوية لأسباب موضوعية يكشف عنها الإعلامي البريطاني تيموتي مارشال في مقالة هامة بعنوان «لماذا روسيا أسيرة الجغرافيا؟» (نيو ستتمان 19 مارس 2022). 

يبين مارشال أن التدخل الروسي في أوكرانيا يرجع لأسباب استراتيجية جغرافية لها أبعاد تاريخية طويلة وممتدة لحقب سحيقة. لقد واجهت روسيا منذ العصور الوسطى أزمة وجودية ناتجة عن انكشاف حدودها الغربية المفتوحة على سهول شمال أوروبا، والتي تضيق في مستوى بحر البلطيق وسلسلة الكاربات، حيث موقع بولندا التي تشكل خط الحماية الأخير لروسيا، ومن هنا حرصها الدائم على استتباعها. وبالإضافة إلى هذه الحدود الأرضية الرخوة والمنكشفة، لا تتوفر روسيا على ميناء في البحار العميقة، بما يعرِّض سفنَها لمشاق كبرى في موانئ القطب الشمالي التي تغطيها الثلوج شهوراً عديدة من العام. فالمسالك التي تسمح لأساطيل البلطيق والبحر الأسود بالوصول إلى الطرق البحرية صعبة إن لم تكن مستحيلةً. 

إن تلك العوائق المزدوجة هي التي تفسر أهمية أوكرانيا الاستراتيجية الفائقة بالنسبة لروسيا، من حيث كونها المنطقة الحيوية الفاصلة بينها ومخاطر التهديد من الغرب.
لقد نجم عن الترتيبات التي تولَّدت عن تفكك الاتحاد السوفييتي سنة 1991 فرض الحياد على أوكرانيا، بتعهدها بعدم الانضمام للاتحاد الأوربي والحلف الأطلسي، مع الحفاظ على الممر الروسي نحو البحر الأسود في إقليم القرم، وعلى المصالح الروسية في إقليم دونباس الذي يضم أقليةً روسية كبرى. ومن هنا ندرك لماذا ضمت روسيا منطقة القرم قبل أن تسيطر مؤخراً على دونباس، من أجل حماية مجالها الحيوي في أوروبا.
ويذكر لنا التاريخ أن مفهوم روسيا الذي يرجع إلى القرن التاسع ارتبط عضوياً بنهر دنيبر الذي قامت عليه أوكرانيا الحالية. وقد اضطرت قبيلة الروس المتمركزة في موسكو منذ القرن الثالث عشر إلى تمديد مجالها الإقليمي إلى الشرق نحو الأورال وإلى الجنوب نحو بحر قزوين وإلى الشمال نحو الدائرة القطبية. وحصلت روسيا على منفذ على بحر قزوين ثم على منفذ آخر على البحر الأسود، مستفيدةً من القوقاز بصفته حاجزاً دون هجمات المغول.
وبعد أن سيطرت روسيا في القرن الثامن عشر على أوكرانيا، واحتلت دول البلطيق، لم تعد تخشى أي خطر من منطقة البلطيق، وانحصر التهديد الذي تتخوف منه في الغرب.
بعد الحرب العالمية الثانية، سعت روسيا إلى تأمين حدودها الغربية من خلال مقاربتها الاستراتيجية الأمنية في شرق ووسط أوروبا (حلف وارسو). بيد أن نهاية الصراع القطبي والحرب الباردة، أدت إلى خروج حلفائها الأوربيين عن نفوذها، وانضمام أغلبهم إلى الحلف الأطلسي (بولندا، رومانيا، بلغاريا، ألبانيا.. إلخ)، فأصبح التهديد الغربي على مسافة لا تتجاوز 150 كيلومتراً من حدود الفيدرالية الروسية.
إن هذه المعطيات هي التي تفسر تشبث روسيا باستراتيجية الحرب والمواجهة، ورفضها لأي حل لا يمنحها حقَّ السيطرة على مجالها الحيوي السابق. إنها نفس المعطيات التي تشرح الدعم الصيني الواضح لروسيا في الملف الأوكراني. فالصين لا تختلف عن روسيا في الثوابت التاريخية الجغرافية: تمدد السيطرة على المناطق المجاورة لإقليم الهان في منشوريا ومونغوليا الداخلية والشنجاك والتبت، من أجل فرض منطقة عازلة تحمي العمق الصيني. لقد ظلت الصين هشة من حيث واجهتها البحرية التي تعرضت عبرها لغزو الدول الغربية، ومن هنا طورت الصواريخ المضادة للسفن لحماية مجالها الحيوي وإبعاد التهديد الخارجي عنه. وعندما تتجه الصين نحو المحيط الهادئ تواجه جداراً منيعاً يمكن أن يعترض منفذَها نحو المحيط، حيث الدول الحليفة لأميركا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وماليزيا.. والتي يمكن أن تهدد أمنَها بالتكتل مع القوى الدولية النشطة في هذا المجال، وبصفة خاصة بريطانيا وأستراليا والهند.
لسنا إذن أمام صراع أيديولوجي من نمط جديد، ولا مواجهة حضارية، كما يدعي بعض المحللين والمعلقين، بل إن الصراع الروسي الأوكراني في معادلته الجيوسياسية يندرج في منطق الزمنيات الطويلة التي هي ثوابت الاستراتيجيا التي لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها. وكما كان يقول الزعيم الفرنسي شارل ديغول: «لا توجد استراتيجية ناجعة بدون سند جغرافي».

أكاديمي موريتاني