تقلد الإنسان مركزيةً فارهةً في قلب القادم والمأمول في مساره الواقعي كثير التغير، مما جعل للإنسان ذاته عدة دلالات مفاهيمية تعبر عن موقعه ضمن «معادلة الحداثة». وربما يعد تخلي الإنسان عن طوق اللجوء إلى الشعور الديني، وتشبثه بخطوات البحث العلمي والإثبات من خلال التجريب، أحد أبرز سمات «الإنسان الحداثي»، والذي أصبح إنسانَ التجربة، أو «الكوجيتو» النازع نحو البرهان، إذ تمثل المبدأ الديكارتي في إثبات الحقائق أو نفيها من خلال التفكير «أنا أفكر إذن أنا موجود». لكن هذه الفكرة عارضها بعض الفلاسفة، إذ عد «موريس كلارك» أن الاكتفاء بالمادية على غيرها لا يمكن أن يصلح لبناء المجتمع المأمول.
وبذلك فقد أخذت النفس البشرية طريقاً موازياً ومصاحباً للبذل الذهني في البحث عن ذاتها، وإثبات استدلالاتها، وبذلك أيضاً فإن توظيف الكوجيتو الديكارتي، أشار إلى شك يليه بحث ثم فكر فمعرفة لا يتخللها التردد. وقد مثل الكوجيتو سبيلاً فكرياً مهَّد أساساتِه قبل ديكارت كل من القديس أوغستين والفيلسوف ابن سينا. وبذلك فقد تحول الإنسان من متلق قسري، إلى رأس ذي أثر، يستعيض عن الإرادة التنظيمية الإجبارية بإرادة إنسانية حرة، الأمر الذي شكَّل نقطةً محورية في سياق تصاعد الثورة الأنطولوجية التي ولَّدت قانوناً جديداً ووعياً مستحدثاً لمعاني ودلالات الحق، سيما بتراجع أسهم القناعات القديمة، وتحجرات الموروث ومخرجات سوء الفهم الملتصق به. 

لكن الحداثة وقعت في فخ «اللامعنى والفوضوية» من خلال التعصب لتغليب العقل والمادية، وإهمال الانعكاسات الدينية. وكما يقول جون موريس كلارك: «لقد خدعنا أنفسَنا زُهاءَ مائة وسبعين عاماً، فحسبنا أننا نستطيع إقامة مجتمع لا يتقدم فيه الناس فحسب، بل يعيشون فيه أيضاً خلال تقدمهم مكرمين منسجمين. لقد وضعنا ثقتنا في سوق آلية تهتم برواج السلع، وتهمل الأشخاص، وسياسة لا تقيم وزناً للأخلاق».
إن الاعتماد على اليقين التجريبي لا يتناقض البتة مع المعطيات الدينية، لا سيما الحاثة على إعمال العقل والاستناد إليه، لكن الإنسان الغربي خاصةً أقر في نظرياته الفلسفية «موتَ الإله» بناءً على محاولاته الجاهدة للأخذ بثأره من اغتيالات المعاني الدينية التي هي من صنع ذات الإنسان الذي يحاول إثبات الخلاص من خلال ذاته. وها هنا تمكن رؤية انعكاس المثل الشعبي: «كذب الكذبة وصدّقها»! فماذا أنتج الإنسان ليتفوق على الطرح الديني؟ وهنا نشير لضرورة الفهم والوعي قبل الانطلاق في تشكيل «صنمية» خادعة حول ثوابت ومبادئ ضرورية في حداثة الإنسان، وكما يقول الفيلسوف «راسل»، فلئن «أفضى التحرر من سلطة الكنيسة إلى النزعة الفردية حد الفوضوية، فقد كان الانضباط الأخلاقي والعقلي والسياسي يرتبط في أذهان الناس في عصر النهضة بالفلسفة المدرسية وبالحكومة الكنسية». 
أفضت الدراسات الدقيقة للرؤية الحداثية حول الإنسان، إلى الإغراق في المادية المنبعثة من انعكاسات التجربة الإنسانية المعاشة بين تحديات التعاليم المقولبة تحت شعار «اعتقاد دون انتقاد»، والتي أدى إدراك تعرجاتها إلى ظهور حاجة ماسة للتغيير والتحديث ضمن أطر «عدم الانسلاخ»، لا سيما أن الإنسان كائن اجتماعي أخلاقي تنصهر معظم واجباته ومسؤولياته في وعاء البشرية الجامعة بين مشتركاتها. ومن هنا لم تكن فلسفات التجريد والعلمنة خاطئة بقدر ما كان تناولها ومنهجية تفكيكها التي أطالت الوقوف على إطلالها بدلاً من استكمال تشييد المعرفة الإنسانية على التقييم والتقويم والنقد الموضوعي! وبين صورة الإنسان في عالم المادة والسلطة الدينية البحتة وفي إدراك «عوز المنهجية» المتخذة وضعيةَ «التوازن الدقيق»، نقول كما قال الفيلسوف كانط: «الدين والأخلاق بنايات ضخمة في المجتمع الإنساني، عسير رفعها إذا هوت، وسقوطها لا يكون إلا مروعاً». فمتى ننجح في رهان اعتماد مفهوم واضح للإنسان في فلسفة الحداثة وما بعدها؟ 

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة