تعرف أدبيات الصراعات الدولية والخبرات العملية المتراكمة عنها أن مسار هذه الصراعات، كما يتأثر بموازين القوى بين أطرافها، يتأثر أيضاً بالتطورات الداخلية فيها، والتي يمكن أن تنجم عن عدم وجود إجماع وطني على الهدف من الحرب، بما يولِّد معارضةً داخلية لها بغية إنهائها، أو ظهور معارضة داخلية للحرب بسبب خسائرها المادية والبشرية. خاصة إذا طال أمدها، وما يفضي إليه ذلك من تبلور اتجاهات للرأي العام تضغط باتجاه إنهاء الحرب.

فإذا استجابت السلطة المعنية لهذه الضغوط وأنهت الحرب، فبها ونعمت، أما إذا واصلت تصلبها ورفضت التوصل إلى تسوية فقد تحدث تحولات في قمة السلطة عادة ما تتم بشكل غير قانوني، بحيث تصل للحكم نخبة جديدة تكتسب شرعيتها من إنهاء الصراع. والأمثلة على هذا عديدة لعل أهمها الخبرة الفرنسية في حرب التحرير الجزائرية، فعندما اشتد ساعد النضال الجزائري ووصل إلى الداخل الفرنسي، دون مؤشرات على قدرة الجيش الفرنسي على الحسم أو الحكومة الفرنسية على التوصل لحل سياسي، قام قادة عسكريون بانقلاب في مايو 1958 أفضى إلى عودة شارل ديجول إلى السلطة.

وعلى الرغم من أن الانقلابيين كانوا يعتبرون بقاء الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي مسألةً غير قابلة للتفاوض، فإن الرؤية الاستراتيجية الثاقبة لديجول وحنكته السياسية جعلته يتوصل إلى اتفاق مع «جبهة التحرير الجزائرية» سلَّم فيه باستقلال الجزائر في يوليو 1962.

ويكاد يكون السيناريو نفسه قد تكرر مع خلاف في التفاصيل في البرتغال مع الانقلاب العسكري في أبريل 1974، والذي كان سببه الأصيل هو النظام الديكتاتوري الذي حكم البرتغال منذ 1933، لكن السبب المباشر كان الإخفاق في مواجهة حرب التحرير في المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، وما أدت إليه من استياء شعبي واسع، وفي العام التالي مباشرةً للانقلاب كانت هذه المستعمرات قد حصلت على استقلالها بالكامل.. فإلى أي مدى يمكن أن تنطبق هذه السيناريوهات على الحرب الدائرة في أوكرانيا؟ من المؤكد أنها يمكن أن تنطبق، خاصةً بالنظر إلى الخسائر الجسيمة التي تكبدتها أوكرانيا بشرياً وفي المعدات العسكرية، بل إنه من الواضح أن بوتين كان يراهن على هذا السيناريو مبكراً.

لكن يجب ألا ننسى أن القضية وطنية بامتياز، وأن عملاً كالانقلاب على السلطة الحاكمة يتطلب توفر شروط لم تكن قائمة آنذاك، فهل بدأت هذه الشروط الآن في التبلور مع زيادة الخسائر وطول أمد الحرب؟ من الواضح أن داعمي أوكرانيا، وبالتحديد الولايات المتحدة وبريطانيا، مستمرون في الاعتقاد بإمكان الانتصار على روسيا عن طريق إمدادات الأسلحة السخية المتقدمة، وهو اعتقاد لا يوجد مؤشر حتى الآن على صحته، كما أن التطورات الداخلية الأخيرة في أوكرانيا تشير إلى إمكانية حدوث شيء ما قد يغير في الموقف، وأقصد به تحديداً إقالة الرئيس الأوكراني لرئيس الأجهزة الأمنية الأوكرانية والنائبة العامة، بسبب العجز عن مكافحة الجواسيس والمتعاونين مع روسيا. وقد أشار الرئيس إلى التحقيق في أكثر من 650 حالة اشتباه في خيانة ارتكبها مسؤولون أمنيون، وهو ما يستدعي إلى الذاكرة الحقبةَ السوفييتية التي كوَّن فيها الأوكرانيون والروس شعباً واحداً لمدة تزيد على ثلاثة أرباع القرن، من المنطقي أن تكون قد أوجدت على الأقل امتزاجاً سكانياً، بالإضافة إلى أن النظام الحالي لا يتمتع برضا كل الأوكرانيين. والسؤال الآن هو: إلى أي مدى يمكن أن يؤثر هذا في مسار الحرب؟ وإلى أي مدى يمكن تطبيق التحليل نفسه على الحالة الروسية؟ بل وعلى الأطراف غير المباشرين في الصراع؟ وهذه قصة أخرى.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة