يبدو العالم اليوم، بالنسبة لكثير من الشعوب، كسفينة كبيرة عملاقة تسير من غير هدى في وسط المحيط، بلا ربان، حيث تتراجع القدرة الأميركية إلى أدنى درجاتها في إدارة ملفات التحديات الكبرى التي تواجه البشرية، بعد أن حاولت لأكثر من 30 عاماً أن تهيمن على القرار العالمي، بالترغيب والترهيب، وبعقد الشراكات والتحالفات والمساعدات، ولكنها وابتداء من جائحة كورونا، ثم تولي الإدارة الأميركية «الديمقراطية»، بتوجهاتها الغامضة، والفشل في إدارة الاتفاق النووي مع إيران، وكذلك عدم القدرة على استباق تصحيح العلاقات مع العملاقين، روسيا والصين، فقدت أميركا الخيوط الأساسية في إدارة الدفة، لدرجة أنها أصبحت في نظر البعض، دولة عادية تمتلك قدرات عسكرية متفوقة فقط.

عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والبيئي العالمي اليوم، سببه غياب القدرات الاستراتيجية التخطيطية الشاملة لمن يتطوع أو ينافس على قيادة العالم، فأصبحت الأوضاع السياسية المتأزمة اليوم، شبيهة بالأوضاع السياسية المتوترة قبيل الحرب العالمية الأولى، وكذلك قبيل الحرب العالمية الثانية، وباتت حالة الاستقطاب السياسي، بعد الحرب الروسية الأوكرانية، تنذر بوقوع كوارث محتملة، في أية لحظة، سببها استبدال العمل السياسي والدبلوماسي والأهداف العالمية الكبرى بالتصعيد السياسي واستعراض القوة العسكرية، إضافة إلى غياب دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.

يبدو أن المستفيدين من تجارة الحروب، هم الذين يجلسون في الغرف المظلمة ويسيطرون على توجيه حالة التصعيد والتأزيم المتواصلة النشطة، ودليل ذلك التحول السريع في المفاوضات بين حلف الناتو وروسيا (أو أميركا وروسيا) خلال أقل من شهر لتصبح حرباً طاحنة على الأرض الأوكرانية، ويعجّ العالم بعدها بأزمة غذاء خطيرة وكذلك أزمة طاقة سوف تقضي على دول وشعوب تأن تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية السيئة التي أنتجتها جائحة كورونا، وأيضاً، وبشكل لافت، التصعيد الأخير بين الصين والولايات المتحدة حول تايون، وكأن هناك من يرغب بشدة أن يصبّ الزيت على النار ويشعل ما تبقى من العالم، تحقيقاً لمصالحه أو إعادة كتابة نظام عالمي جديد.

بالطبع فإن المشكلة الأساسية والتحدي الأكبر الذي لم يجد لها السياسيون حلاً هو التصعيد النووي العالمي، فأصبحت كل المؤتمرات والقمم والمعاهدات العالمية منذ العام 1991 للحد من سباق التسلح النووي، حبراً على ورق، حيث نشر تقرير هذا الأسبوع، في مجلة «ناشونال إنترست» ما يخالف رغبة الصين في الحد من ردعها النووي، ويؤكد أن الصين باتت ترغب في توسيع قدرات «الردع النووي» لديها والذي سيزيد من خطر زيادة الانتشار النووي في آسيا ومنهم حلفاء الولايات المتحدة، كاليابان وكوريا الجنوبية، الذين يفكرون بضرورة الدفاع عن أنفسهم من خلال امتلاك أسلحة نووية أيضاً، عدا عن إيران ودول أخرى تهدد بامتلاك السلاح النووي. الجميع يعلم أن الولايات المتحدة لن تطلق طلقة واحدة تجاه أي دولة الآن، وستفعل ذلك فقط في حال مهاجمتها أو مهاجمة مصالحها الاستراتيجية، لذلك فعلى الساسة الأميركيين أن يتخلوا بشكل كامل عن حالة التصعيد غير الضرورية ويبحثوا عن وسائل سلمية للتفاوض مع روسيا والصين، وإذا عجز رجال السياسة الأميركيون عن ذلك، لسبب غير مفهوم، فعلى الأوروبيين أن يتدخلوا بكل ما لديهم من قدرات سياسية ودبلوماسية، لأنهم يعلمون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لن يتراجع قيد أنملة، وكذلك فإنه لن يقبل أبداً بخسارة الحرب، وهدد بشكل واضح أنه سيستخدم السلاح النووي إذا اضطر إلى ذلك.

تمكنت القيادات الخليجية والعربية، البقاء على مسافة واحدة حيادية مع كافة الأطراف، وكان ذلك «أفضل عمل سياسي عربي» منذ مائة عام، ويجب المحافظة عليه، وتلعب دولة الإمارات إلى جانب الحليفة الشقيقة الصديقة، المملكة العربية السعودية، دوراً كبيراً واستثنائياً في ضبط وتنظيم هذه الإستراتيجية التي ستجعل كافة التحديات الممكنة قيد الإدارة الحكيمة الواعية القادرة على توجيه دفة إقليم الشرق الأوسط، على الأقل، في السلم والحرب، وفي ذات الوقت، التشجيع الهادىء المتزن على أهمية وضرورة الحلول السلمية العالمية، ووضع الرؤى والمقترحات التي يمكنها تقريب وجهات النظر لإنهاء الحرب في أوكرانيا وحل مشكلتي الطاقة والغذاء، وإعاد الجميع إلى منصات السلام. يحق لنا في دولة الإمارات أن نفخر برؤى سيدي صاحب السمو رئيس الدولة، حفظه الله ورعاه، في قيادة وإدارة ورعاية الجهود العالمية التي تحفظ الأمن والسلام الدوليين.

* لواء ركن طيار متقاعد