منذ أوائل تولي حركة «النهضة» للمقاليد في تونس، وبدء ترسيخ تنفّذها السياسي والاقتصادي وهاجس التجربة «الإخوانية» المصرية الفاشلة حاضرة في رسمها لاستراتيجيتها بالحكم، فالوضع الذي وصل إليه «الإخوان» بمصر كان اجتثاثه عن طريق انتفاضة شعبية عارمة ترفض حكم «الإخوان».

والغنوشي في حواراته زعم أنه مستوعب للدرس المصري وحاضر في ذهنه ذلك الفشل. المجتمع التونسي مختلف تماماً في سوسيولوجيته وتعليمه وإرثه وهويته عن المجتمع المصري، ثمة تقاطعات لكن الاختلافات أكبر، لذلك كان حذر الغنوشي طاغياً، بل قدم تنازلاتٍ لتطمين المجتمع والناس على «حرياتهم اليومية»، لكنه حذر لم يدم إذ سرعان ما تكشّفت الأمور عن كوارث أبرزها:«تأسيس تنظيم سري لتنفيذ اغتيالات، التورط بالفساد وغسيل الأموال، والتنظيم متهم من قبل النيابة بتنفيذ عمليات اغتيال»، واحدة من هذه تكفي لإسقاط الحزب، فماذا عن التواطؤ على ارتكاب كل هذه البواقع؟

عدد من الباحثين غير العرب وقعوا في الفخ، ظنّوا أن حركة «النهضة» ستنجح في تعويم أفكارها ونفوذها بالمجتمع التونسي، ومن أولئك المحللة البريطانية أليسون بارجتير في كتابها:«الإخوان المسلمون وحركة النهضة الانكفاء إلى الظل» فيه رأت أن حركة النهضة رحلت عن معسكر الإسلاميين، تقول:«شرعت حركة النهضة في هذه الأثناء استيعاب أزمة التجربة المصرية، وشرعت، بخلاف «إخوان مصر» كما يبدو، في عملية جادة لإعادة النظر والمراجعة. فأظهرت الحركة بَعْدَ لَأْيٍ عزمها على مراجعة وثيقة برنامجها الفكري، وهنالك دلائل قوية على أنها ستقدِم على فصل عملها السياسي عن أنشطتها الدينية. وكما أعلن الغنوشي نفسه في 2016:«لقد أنشأنا حركةً شموليةً، شموليةَ الإسلام، ولكن تغيَّر الزمن. ونحن نتجه إلى حزب عصري متخصص في شؤون الدولة، وبيّن سيد الفرجاني، وهو أحد كبار أعضاء النهضة، «أن القوى المحركة للدعوة التي تنتمي إلى حيز الإيمان مختلفة جدّاً عن القوى المحركة للسياسة وحيز سياسات الأحزاب، وفي «النهضة»، بعد مناقشات واسعة، هناك إجماع بين كل الاتجاهات الفكرية في الحركة على أن الدعوة والحزب ينبغي فصلهما تماماً، ومضى الفرجاني أبعد من ذلك، يقول: لقد خلُصنا إلى أن الإسلامية يمكن صوغها في قالب للدفاع عن هوية المسلمين من الناحية الفكرية والفلسفية، لكنها ليست نافعة جدّاً في ما يتصل ببناء دولة مزدهرة ومجتمع ينعُم بالرخاء»(!).

ثم تستشهد المؤلفة بإدانة النهضة لتنظيم داعش، تقول:«حزمت النهضة أمرها بوضوح في أن العلمانية – رغم نفورها من هذا المصطلح – هي الطريق الوحيدة للنجاة سياسياً. الحق أن «النهضة» باشرت كما يظهر في عملية إعادة اختراع نفسها، والغنوشي باشر في الترويج لفكرة أن الحركة حزب ديمقراطي مسلم. وما من شك في أن هذه التحركات ستلقى في الأغلب الأعم استحساناً مُتَوَاصلاً في الساحة الدولية... كما تبنَّت «النهضة»، في الوقت نفسه، مقاربة أكثر حدةً إزاء التطرف، ومن ذلك إدانتها «داعش»، أو«الدولة الإسلامية في العراق والشام». وهذا إلى حدٍّ ما مثِّل رحيلاً عن معسكر الإسلاميين».

مثل هذا التحليل الهشّ يتبعه معظم ذوي الهوى السياسي الغربي اليساري المؤيد للأصولية باعتبارها حركة حقوقية وديموقراطية، علينا كتابة رواية الأصولية قبل أن يكتبها من لا يفقه في هذه الأحزاب الدموية الإرهابية شيئاً.

 كاتب سعودي