تبدو شبكة الولاءات والتوجهات في الشمال السوري شديدة التعقيد، فالأكراد السوريون يعيشون في الشمال الشرقي ذات التشتت الذي يعيشه أقرانهم العرب في ولاءاتهم وانقساماتهم في ضفتي المعارضة والموالاة، ويبدو من مفارقات تعقيد الشبكة أن قسماً ضخماً من جنود وحدات حماية الشعب الكردي هم من الشباب العرب من أبناء المنطقة ومن الذين انضموا لهذه الوحدات لمحاربة «داعش»، ومن الذين كانوا في الجيش الحر الذي انفرط عقده فالتحقوا بالتنظيمات الكردية في الشمال الشرقي، ومع استعادة كثرة من الأكراد لحضور حزب العمال الكردستاني تصاعد القلق التركي الذي سبق أن بلغ ذروته بين عامي 1996- 1998، حيث حشدت تركيا قوات عسكرية على الحدود الشمالية مهددة بتدخل عسكري لكون سوريا تدعم هذا الحزب وتستضيف آنذاك عبد الله أوجلان، وتسمح بأنشطة وتدريبات للحزب في سوريا ولبنان.
وقد ساد النفور في العلاقات السورية التركية، لكن الرئيس حافظ الأسد ابتعد عن أي صدام عسكري مع الأتراك، وقد سارع الرئيس مبارك وجامعة الدول العربية لإطفاء نيران الغضب التركي، وتم الحل في إبعاد أوجلان، وتم التوصل إلى اتفاق أضنة الذي يبقى إلى اليوم نقطة تواصل أمنية مهما حدث من اختلافات.
وقد وقعت منطقة الشمال الشرقي في تجاذبات عسيرة، بين حرص على عدم التمرد على الحكومة السورية وفي حرص معلن على تمتين العلاقة مع روسيا التي رعت المشروع الكردي سياسياً، وفي ولاء معلن أيضاً للولايات المتحدة الأميركية التي اختارت تكليف الأكراد بقتال «داعش»، حين رفض «الجيش الحر» أن يتوقف عن صراعه مع النظام السوري وينصرف لقتال «داعش» فقط، على الرغم من كونه تصدى لـ«داعش» وطردها من كثير من مواقعها في الشمال الغربي وفي عدة محافظات، وقد تم إنهاء دور الجيش الحر بإنهاء دعمه، ومضت تنظيمات عسكرية كردية وعربية إلى قتال داعش متوافقة مع المطلب الأميركي.
وكان السوريون العرب عامة قلقين من احتمال وجود نوايا خفية للمشروع الكردي حين بدأ الحديث عن (روج آفا) وعن (كردستان سوريا)، وبات التخوف أكبر من أن تكون ثمة رغبة كردية في اقتطاع خمس مساحة سوريا لمشروع كردستاني يؤسس لحالات تقسيم سوريا بين طوائفها وانقساماتها العرقية أو المذهبية، لكن فريقاً معتدلاً من الأحزاب الكردية بقي حريصاً على العمل في إطار المعارضة ومؤسساتها مثل الائتلاف الوطني وهيئات التفاوض واللجنة الدستورية وسواها.
ولم يكن السوريون العرب يعارضون مطالب الأكراد وحقوقهم المشروعة، وقد أعلنا عدة مرات في بيانات المعارضة ووثائقها أن القضية الكردية قضية وطنية بامتياز، ومن حق الأكراد أن يتمتعوا بحريات ثقافية وإدارة محلية ضمن النظام العام، ومعاناتهم جزء من معاناة الشعب السوري بكل شرائحه.
لكن السوريين العرب لا يقبلون بظهور أية كيانات تفتح باب التقسيم، وقد أكد لنا كثير من أشقائنا الكرد أنهم لا يسعون إلى انفصال.
لكن تزايد القلق التركي جعل المنطقة تعيش حالة من الترقب الحذر، وبات احتمال قيام تركيا بتدخل عسكري جديد قائماً، ولم تحصل تركيا على توافق مع القوى الفاعلة في الملف السوري، فإيران ترفض هذا التدخل وروسيا تحذر منه وواشنطن ستكون محرجة إذا تباطأت في الدفاع حلفائها الكرد، وفي الوقت ذاته سيكون صعباً أن تدخل في صدام عسكري مع تركيا الشريكة الفاعلة في حلف الناتو، والتي أصبحت أكثر فاعلية في الجسر الذي شيدته بين روسيا وأوكرانيا، ولم يعد سهلاً كذلك أن تتنازل تركيا عن خطتها دون الحفاظ على هيبتها ومكانتها الإقليمية.
ولئن كانت الحكومة السورية تصر على ولاء الشمال السوري الشرقي لها حيث الأهمية الاقتصادية والأمنية، فإنها تخشى من اتساع النفوذ التركي في الشمال السوري، كما تخشى تركيا من تصاعد الرفض الشعبي لديها لبقاء نحو أربعة ملايين سوري يعيشون في أراضيها وقد ضاق كثير من الشعب التركي بحضورهم حيث تنادي المعارضة التركية بطردهم، وتعلن الحكومة التركية عن رغبتها بإقامة منطقة آمنة تعيد السوريين اللاجئين إليها، بينما يظهر احتمال أن تواجه تركيا ملايين جدداً من اللاجئين السوريين على حدودها في حال نشوب أي صدام عسكري في إدلب أو في الشمال الشرقي حيث لا مفر أمامهم غير تركيا.
ويبدو من نوافذ الأمل وسط هذه العواصف أن العلاقات التركية العربية استعادت عافيتها وبخاصة بين تركيا ودولة الإمارات وبينها وبين المملكة العربية السعودية، كما عادت إلى الهدوء مع مصر، وهذا ما يجعل السوريين يتطلعون إلى ظهور حل عربي قادر على تجنب المزيد من الفواجع والمآسي في سوريا.
* وزير الثقافة السوري الأسبق