الحداثة ليست مشروعًا للنخبة أو للأثرياء، بل هي بالأساس تنوير العامّة وتحديث الفقراء. ومن الخطأ الفادح اعتبار الحداثة فكرًا علويًا لا يناسب جموع البسطاء والمحتاجين، أو أنها ثقافة ترفيّة لا مكان لها عند من يبحثون عن الخبز وينشدون الشبّع.
بل إن الأمر على النقيض من ذلك، فمن دون حداثة الفقراء، وانفتاح تلك الطبقة العريضة من المجتمع على إعمال العقل والتزام المنطق.. تصبح النخبة في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر، وبينما تسيطر قشرة حداثية أعلى السطح، فإن ما تحت السطح يرزح في حقبة ما قبل الحداثة.
يحتاج تحديث الفقراء والأميين ومحدودي التعليم بطبيعة الحال إلى طبقة ثقافية وسيطة، حيث يقوم الوسطاء الثقافيون بتبسيط العلوم والأفكار، وشرح الرؤى والأطروحات، ونقل ما هو نخبوي عند السقف إلى ما هو بسيط ومفهوم عند السفح.
في عرضِه للتجربة الأوروبية في الحداثة، يذهب الفيلسوف الجزائري محمد أركون إلى أن فلاسفة التنوير قد عاشوا في فرنسا في القرن الثامن عشر بينما كان الناس من حولهم فقراء وبؤساء تمامًا. ومع ذلك فإن فلاسفة التنوير قاموا بنقد المنهج الذي قادهم إلى التخلف وطرحوا المنهج الذي يمكنه انتشالهم من براثن الفشل إلى التقدم والانطلاق.
طرح الفلاسفة على الفقراء أطروحاتهم في اعتماد العقل أساسًا في التفكير، والاعتماد على التفكير العلمي في تحقيق أحلام النهضة والصعود. إن هؤلاء الفلاسفة هم الذين أقنعوا جموع البائسين بجاذبية العقل وقوة الطرح.
ولمّا راقب الفقراء مراحل التحديث المتعاقبة زادت قناعاتهم، وتعاظم انبهارهم بإمكانات العلم، وقدرة التفكير العقلي على مواجهة الفقر والمرض وذلّ الاحتياج، لقد كان نجاح الحداثة في دفع نمط الحياة قدمًا من مآسي العصور الوسطى إلى آفاق العقل الحديث، هو ما مهّد لموجات تالية من التحديث، حتى وصل العلم إلى أصغر وحدات المكان والزمان، وطافت مركباته وآلياته من القمر إلى المريخ، ومن الأرض إلى الكون.
اليوم.. وبعد قرون من بدء التنوير والتحديث في الغرب، تتفاقم أزمات السياسة التي جلبتها الحداثة، فمن الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، ثم إلى جملة حروب تمتد من الحرب الكورية إلى الحرب الأوكرانية. وهو ما قاد إلى موجة تشكيك في قدرة العقل على حماية نفسه وحماية الإنسان الذي يحمِله.
بدتْ الحداثة ضدّ الحداثة، والعقل ضدّ العقل، والتنوير ضد التنوير. إنها الحرب الأهلية الحداثية، حيث كل الأعداء عقلانيون، وكل المتصارعين حداثيون.
لقد قادت الحداثة أيضًا إلى الانتقال من بؤس الحياة إلى رغدها، ومن الفقر والعوز إلى الاكتفاء والرخاء، ولكنها سرعان ما قادت في جوانبها الرأسمالية المتطرفة إلى صراعات وحروب بين الدول والأفراد، وبين المؤسسات والشركات، لتصبح الرأسمالية ضد الرأسمالية والليبرالية ضد الليبرالية.
إن انحراف الحداثة يمكن تصويبه، والخروج عن المسار يمكن تصحيحه، ولكن العالم العربي لايزال في موقع آخر، إذْ يعيش معظمه في حقبة ما قبل الحداثة. وهو إذْ يحتاج لبدء أو استكمال رحلة الحداثة، فإن أهم ما يحتاجه في زاد تلك الرحلة.. حداثة الفقراء.
* كاتب مصري