في سبعينيات القرن الماضي ظهرت «نظرية المجال العام» Public Sphere theory على يد المفكر الألماني «يورجن هابرماس» في كتابه «التحول البنيوي للمجال العام»، وصارت منذ ذلك الحين واحدة من أهم نظريات الاتصال.
بحسب هابرماس، فإن «المجال العام» يتكون من مجموعة من الأفراد المجتمعين في مكان واحد (يُشترط أن يكون مكاناً عاماً) لمناقشة القضايا العامة. ويُشترط أن تتوفر مجموعة من المحددات لإنجاح «المجال العام» مثل ضمان عملية الوصول والانتشار. وتوفر الحرية الكاملة للمشاركين في النقاشات. وتساوي الرؤوس، بمعنى عدم خضوع المشاركين لأية سلطة تسيطر على آرائهم أو تجبرهم على الإدلاء بآراء معينة. ووجود قانون ينظم عملية المشاركة في طرح الآراء. وضمان المساواة في المساحة الممنوحة لكل مشارك. ووجود سياق اجتماعي ملائم. بالإضافة إلى وضوح المضمون الإعلامي في المشاركات.
منذ السبعينيات وحتى اليوم، دخلت تحديثات كثيرة على المكان العام الذي يمثل الحاضن لهذه النظرية، فلم يعد النادي أو المقهى أو المطعم أو الحديقة هي الأمكنة الوحيدة التي يتداول فيها الجمهور آراءهم تجاه قضية عامة معينة أو حدث عام يؤثر بشكل أو بآخر على حياتهم، فقد دخلت مجموعة من الأماكن الحسيّة والافتراضية على الخط، وأصبحت جزءاً من هذه النظرية المهمة. ومن بين الأماكن التي يمكن أن نعتبرها اليوم حاضنة لنظرية المجال العام المساحات الإلكترونية التي تمنحها وسائل التواصل الاجتماعي لمستخدميها.
لماذا أستحضر هابرماس هنا وأتحدث عن نظريته الشهيرة؟ أفعل ذلك لأقول إن لا مشكلة عندي في وجود التفاهة في محتوى وسائل التواصل الاجتماعي. لا مشكلة أبداً في أن يكون ما يُطرح فيها خالياً من الذوق والأدب واللطف وحتى القيمة. وسائل التواصل الاجتماعي فضاء مفتوح (مكان عام) يلتقي فيه كل الناس. الذكي والأقل ذكاء. العبقري والمجنون. الخبيث والطيب. المثقف والجاهل. الحكيم والأحمق. لا مشكلة عندي أبداً في أن تتنوع مشاركاتهم وآراؤهم وخياراتهم وتفضيلاتهم. هكذا هي طبيعة وسائل التواصل الاجتماعي، وهكذا يجب أن نفهمها ونتعايش معها.
وسائل التواصل الاجتماعي هي بمثابة المجلس، الاستراحة، المصطبة، النادي، المقهى، المطعم. الكل حر فيما يريد أن يقول أو أن يتشاركه مع الآخرين، بشرط الخضوع فقط للقانون العام أو قانون هذا المجلس (وسيلة التواصل الاجتماعي نفسها)، وبالتالي فليس لدي مشكلة أبداً، أن يقول فلان من الناس ما لا أتفق معه، أو يقول علّان من الناس ما أكره أن أسمعه.
ولا مشكلة لدي في وجود المشاهير الذين يطرحون محتوى تافهاً وسخيفاً وبلا قيمة في هذه المجالس. هذه طبيعة الحياة. غث وسمين وجيد ورديء. وإن كنت عزيزي القارئ لا تحضر مجالس الغث ومصاطبه، فلن ترى محتوى التفاهة هذا ولن تتعرض له. إن كنت من غير المهتمين بمحتوى المشاهير الذي بلا قيمة، فلن تراهم ولن ترى محتواهم. هكذا بكل بساطة.
المشكلة الكبرى عندي تتمثل في صراخ «محاربي المشاهير» الذين صدعوا رؤوسنا ليل نهار بعرائضهم الاحتجاجية على ما يطرحه المشاهير. لماذا هي مشكلة كبيرة؟ لأنهم أرغمونا بالقوة على الدخول لمجالس المشاهير التافهة ليقولوا لنا إنها تافهة! ولأنهم يعدون مجالس ومصاطب وسائل التواصل الاجتماعي منابر إعلامية وهي ليست كذلك، ولأنهم أخيراً يفعلون ذلك لا لمحاربة المحتوى التافه للمشاهير، وإنما ليقولوا لنا إنهم أحق بالشهرة منهم.
* كاتب سعودي